الشريعة الاسلامية يتبع ...
.خصائص الشريعة الإسلاميةفقه الشريعة |
تمتاز الشريعة الإسلامية بخصائص ترفعها إلى أرقى درجة من العظمة والكمال لا يرقى إليها أي قانون وضعي، وأهم خصائصها ما يلي:
أولا: ربانية المصدر
بمعنى أن مصدر الشريعة هو الله سبحانه و تعالى، كما أن أحكامها تهدف إلى ربط الناس بخالقهم، وبناء على ذلك يجب على المؤمن أن يعمل بمقتضى أحكامها، قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُومِنٍ وَلاَ مُومِنَةٍ اِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا اَن تَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنَ اَمْرِهِمْ...﴾ [سورة الأحزاب، من الآية 36]، وقال أيضا: ﴿ فَلاَ وَرَبـِّكَ لاَ يُومِنُونَ حَتَّىا يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [سورة النساء، الآية 65].
وقد نتج عن خاصية الربانية عدة نتائج، أهمها:
- خلو أحكام الشريعة الإسلامية من أي نقص، لأن شارعها هو الله صاحب الكمال المطلق.
- عصمتها من معاني الجور والظلم تأسيسا على عدل الله المطلق.
- قدسية أحكامها عند المؤمن بها إذ يجد في نفسه القدسية والهيبة تجاهها.
ثانيا: الشمولية (زمانا، مكانا، إنسانا وأحكاما)
أ. من حيث الزمان: بمعنى أنها شريعة لا تقبل نسخا أو تعطيلا، فهي الحاكمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ب. من حيث المكان: فلا تحدها حدود جغرافية، فهي نور الله الذي يضيء جميع أرض الله.
ج. من حيث الإنسان: فالشريعة تخاطب جميع الناس بأحكامها، لقوله تعالى:
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [سورة سبأ، الآية 28].
﴿ قُلْ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا...﴾ [سورة الأعراف، من الآية 158].
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأنبياء، الآية 107].
﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [سورة الفرقان، الآية 1].
وقال الرسول "صلى الله عليه وسلم" : (كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة).
د. من حيث الأحكام: إن أحكام الشريعة تناولت جميع شؤون الحياة، فقد رسمت للإنسان سبيل الإيمان وبينت شروط وتبعات استخلافه، وتخاطبه في جميع مراحل حياته، وتحكم جميع علاقاته بربّه، بنفسه وبغيره.
ثالثا: الواقعية
تتجلى في اعتبار واقع المكلفين عند تشريع الأحكام وفي التعامل معها، ومن مظاهر ذلك:
- تقرير أنواع التخفيفات منها: تخفيف إسقاط: كإسقاط القبلة عن أصحاب الأعذار، وتخفيف إبدال كالتيمم بدل الوضوء عند تحقق موجباته، وتناول المحرم للضرورة في مثل قوله تعالى: ﴿... فَمَنُ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلآَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ...﴾ [سورة البقرة، من الآية 173].
رابعا: الوسطية
يُراد بها التزام أحكام الشريعة الإسلامية لنقاط الاتزان بين جميع المتقابلات، فهي وسط بينها، وهذا ما يكسبها القوة والدوام.
فقد نصت الشريعة على التملك الفردي المنضبط وسطا بين إلغائه وتحريره من كل القيود، وحثت على الشجاعة وهي وسط بين الجبن والتهور، وأمرت بالإنفاق وهو وسط بين البخل والتبذير في قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً اِلَىا عُنُقِكَ وَلاَ تَـبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَـتَـقْـعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ﴾ [سورة الإسراء، الآية 29].
خامسا: الجمع بين الجزاء الدنيوي والأخروي
تتفق الشريعة مع القانون الوضعي في توقيع الجزاء على المخالف لأحكامها في الدنيا، في حين لا تمتد يد القانون الوضعي إلى معاقبة الإنسان في آخرته بينما تعاقب الشريعة مخالفيها في الآخرة، فهي تجمع بين الجزاءين معا.
سادسا: الجمع بين الثبات والمرونة
تجمع الشريعة بين عنصري الثبات والمرونة، ويتجلى الثبات في أصولها وكلياتها وقطعياتها، وتتجلى المرونة في فروعها وجزئياتها وظنياتها، فالثبات يمنعها من الميوعة والذوبان في غيرها من الشرائع، والمرونة تجعلها تستجيب لكل مستجدات العصر.
سابعا: الموازنة بين مصالح الفرد والجماعة
إن الشريعة - على خلاف القوانين الوضعية - توازن بين مصالح الفرد والجماعة فلا تميل إلى الجماعة على حساب الفرد، ولا تقدس الفرد على حساب الجماعة.
يقوم التشريع الإسلامي على أسس وركائز فريدة تكسبه الصلاحية لكل زمان ومكان و إنسان، وأهم تلك الأسس ما يأتي:
أولا: التيسير و رفع الحرج
ومن مظاهره قلة التكاليف التي فرضت على الإنسان، وإباحة المحظورات عند الضرورات، و يتجلى هدا الأساس في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية منها قوله تعالى:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا...﴾ [سورة البقرة، من الآية 286].
﴿...وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...﴾ [سورة الحج، من الآية 78].
﴿...مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ...﴾ [سورة المائدة، من الآية 6].
﴿...يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ...﴾ [سورة البقرة، من الآية 185].
﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [سورة النساء، الآية 28].
ويقول تعالى في وصف الرسول "صلّى الله عليه و سلم": ﴿... وَيَضَعُ عَنْهُمُ إِصْرَهُمْ وَالاَغْلاَلَ التِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ...﴾ [سورة الأعراف، من الآية 157].
ويؤكد رسول الله "صلّى الله عليه وسلم" ذلك الأساس في أحاديث كثيرة منها: (يسروا ولا تعسروا).
وأوصى اثنين من الصحابة رضي الله عنهما قائلا: (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا).
وقال أيضا "صلّى الله عليه وسلم":
وقال أيضا "صلّى الله عليه وسلم":
(بعثت بالملة السمحة الحنيفية البيضاء).
(إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه).
(خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لن يمل حتى تملوا).
(هلك المتنطعون).
وحينما سئل عن الحج: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: (لو قلت نعم لوجبت، ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم).
وفي رواية: (فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
كما ثبت عن الرسول "صلّى الله عليه وسلم" ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرها ما لم يكن إثما.
ثانيا: رعاية مصالح الناس
إن المتتبع لأحكام الشريعة الإسلامية يتجلى له أن المراد منها تحقيق مصالح الناس، وهذا من مقتضيات عمومية الشريعة و صلاحياتها لكل زمان ومكان، ومن النصوص التي تشير إلى ذلك قوله تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأنبياء، الآية 107].
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّـلْمُومِنِينَ...﴾ [سورة الإسراء، من الآية 82].
﴿...يَامُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّـيِّـبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ...﴾ [سورة الأعراف، من الآية 157].
﴿ هَذَا بَصَآئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [سورة الجاثية، الآية 20].
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ...﴾ [سورة الإسراء، من الآية 9].
ومن السنة النبوية قوله "صلّى الله عليه وسلم" : (لا ضرر ولا ضرار)، وإباحته زيارة القبور، بعد أن كانت ممنوعة تحقيقا لمصلحة فقال "صلّى الله عليه وسلم": (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزورها فإنها تذكركم الآخرة).
ويستنتج من تلك النصوص أن [الشريعة مبناها وأساسها على الحكم و مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث ليست من الشريعة وإن أدخلت فيها التأويل...].[1]
ثالثا: تحقيق العدل بين الناس
فهذا من الأسس القوية التي يعتمد عليها التشريع الإسلامي، وقد تضافرت النصوص على ترسيخه، إذ نجد نصوصا تدعو إلى إقامة العدل، وأخرى تنَفِّر من الظلم؛ فمن النصوص التي تدعو إقامة العدل ما يلي:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالاِحْسَانِ...﴾ [سورة النحل، من الآية 90].
﴿اِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمُ أَن تُوَدُّوا الاَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ...﴾ [سورة النساء، من الآية 58].
﴿يَآ أَيـُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمُ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالاَقْرَبِينَ... ﴾ [سورة النساء، من الآية 135].
﴿يَآ أَيـُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سورة المائدة، الآية 08].
ومن النصوص التي تنفر من الظلم ما يلي:
قال تعالى:
﴿... مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾ [سورة غافر، من الآية 18].
﴿ وَلاَ تَحْسِبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُوَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الاَبْصَارُ ﴾ [سورة إبراهيم، الآية 42].
وقال رسول الله "صلّى الله عليه وسلم":
(الظلم ظلمات يوم القيامة).
(إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
رابعا: التدرج في التشريع
إن القرآن والسنة لم يأتيا جملة واحدة، بل استغرقا مدة الرسالة كلها، كما أن أحكامهما شرعت تدريجيا تحقيقا لحكم جليلة ورد بعضها فيما سبق، وتخفيفا على الناس، تماشيا مع فطرة الإنسان التي يتطلب التعامل معها التزام التدرج لتغييرها وحسن الارتقاء بها كما أن التدرج يتلاءم مع منهج التغيير بشكل عام، إذ لا يمكن تغيير أوضاع المجتمعات لتتفق مع الشريعة إلا بأسلوب التدرج، ويصدق هذا حتى مع المجتمعات الإسلامية التي يتفاوت التزامها بالشرع، ذلك أن: [الواقع الإسلامي الراهن تتفاوت أوضاعه في القرب من هداية الشريعة والبعد عنها، فرب وضع لم ينحرف عنها إلا بمقادير طفيفة فيكون أخذه بالمعالجة الشرعية محققا للمقاصد المطلوبة، ورب وضع آخر ابتعد بعدا كبيرا وافتقد من الشروط التي تهيئ لانفعاله بالشريعة إذا طبقت عليه ما يجعل تنزيلها الفوري فيه مفضيا إلى حرج شديد يلحق بالناس...].[2]
[1] ابن القيم الجوزية، إعلام الموقعين، الجزء الثالث، دار الجيل، بيروت 1973، ص 03
[2] د عبد المجيد النجار، المقتضيات المنهجية لتطبيق الشريعة في الواقع الإسلامي الراهن، بحث قدم في ندوة "قضايا المستقبل الإسلامي" الجزائر من 04 إلى 07 ماي 1990 مركز دراسات المستقبل الإسلامي، ص 86
أولا: عهد الرسالة
يعد هذا العهد أهم عهود التشريع، لأن الأحكام الشرعية فيه كان مصدرها الوحي بشقيه القرآن والسنة. وينقسم إلى مرحلتين أساسيتين هما:
أ- المرحلة المكية: وهي مدة إقامة النبي "صلىّ الله عليه وسلم" بمكة، وهي اثنتا عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما. وقد اتجه الوحي في هذه المرحلة إلى بيان أصول الدين والدعوة إليها، والأمر بأمهات الفضائل والنهي عن الرذائل، ولم يتعرض إلى الأحكام العملية إلا قليلا وبشكل كلي غالبا.
ب- المرحلة المدنية: وهي مدة إقامة النبي عليه الصلاة والسلام بالمدينة (بعد الهجرة)، وهي تسع سنوات وتسعة أشهر وتسعة أيام.
وفي هذه المرحلة أخذ الوحي ينزل بالتشريعات المفصلة التي لا بد منها لتنظيم حياة المسلمين، إذ بدأت الدولة الإسلامية تتكون، وتحتاج إلى ما تقوم به من نظم وتشريعات وقوانين تحدد العلاقات بين أفرادها، وبينها وبين غيرها من الأمم...فقد وضع الإسلام لأول مرة في تاريخ العرب فكرة الدولة، وجعل من الواجب طاعة السلطان، قال تعالى: ﴿يَآ أَيـُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَمْرِ مِنكُمْ...﴾ [سورة النساء، من الآية 59].
وقال الرسول "صلىّ الله عليه وسلم": (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني).
كما قيد الإسلام سلطة الدولة بأن أوجب الشورى في الحكم، فقال تعالى: ﴿...وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ...﴾ [سورة الشورى، من الآية 38]، وقال أيضا: ﴿...وَشَاوِرْهُمْ فِي الاَمْرِ...﴾ [سورة آل عمران، من الآية 159]، وجاء في الحديث النبوي الشريف: (السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة).
كذلك دعا الإسلام إلى الجهاد في سبيل الله وحرم الغزو الجاهلي، وأباح الحرب الدفاعية لأجل دفع العدوان، وحرم قتل الأطفال والشيوخ والنساء، كما منع قتل رجال الدين ومنع التمثيل بالعدو...
كما وضع أحكام الأسرة من زواج وطلاق وولاية ونفقات ومواريث، كما أقر الإسلام الحريات ووضع الضوابط اللازمة لها...
1. مصادر التشريع في هذا العهد:
ليس للتشريع مصدر في هذا العهد إلا وحي السماء كما صرح القرآن بذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [سورة النجم، الآيتان: 3-4]، ﴿...وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ...﴾ [سورة النحل، من الآية 89].
والرسول "صلّى الله عليه وسلم" أمِر بتبليغ الوحي في قوله تعالى: ﴿يَآ أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبـِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالاَتِهِ...﴾ [سورة المائدة، من الآية 67]، وأمِر ببيانه في قوله تعالى: ﴿...وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِـتُـبَـيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...﴾ [سورة النحل، من الآية 44].
2. طريقة التشريع في هذا العهد:
تتمثل الخطة التشريعية في هذا العهد في ثلاث طرق هي:
الأولى: حدوث واقعة
فمن الأحكام التي نزلت بمناسبة حوادث وقعت قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُومِنَّ وَلأَمَةٌ مُّومِنَةٌ خَيرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوَ اَعْجَبَتْكُمْ...﴾ [سورة البقرة، من الآية 221].
فقد نزلت هذه الآية بمناسبة حادثة خلاصتها أن أحد المسلمين عزم على نكاح مشركة وعلق نكاحه على موافقة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبره بذلك نزلت هذه الآية.
ومن ذلك أيضا ما رُوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: [جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله بابنتيها فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد ابن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، ولا ينكحان إلا بمال، فقال: (يقضي الله في ذلك). فنزلت آية الميراث، فأرسل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عمهما فقال: (أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك)].
الثانية: ورود سؤال
ومن الأحكام التي نزلت جوابا عن سؤال قوله تعالى:
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلُ احِلَّ لَكُمُ الطَّـيِّـبَاتُ...﴾ [سورة المائدة، من الآية 4].
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الاَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ...﴾ [سورة البقرة، من الآية 189].
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالاَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ...﴾ [سورة البقرة، من الآية 215].
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلِ اِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ...﴾ [سورة البقرة، من الآية 220].
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ...﴾ [سورة البقرة، من الآية 217].
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ...﴾[سورة البقرة، من الآية 219].
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنَ اَمْرِ رَبـِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [سورة الإسراء، الآية 85].
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا ربِّي نَسْفًا﴾ [سورة طه، الآية 105].
ومن السنة ما روي أن بعض الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي "صلّى الله عليه وسلم" فقالوا له: (إنا نركب البحر المالح وليس معنا من الماء العذب ما يكفي الوضوء أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو الطهور ماؤه الحل ميتته).
وروى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن هندا قالت: (يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (خذي ما يكفيك بالمعروف).
الثالثة: تشريع أحكام غير مسبوقة بواقعة أو سؤال
ومن تلك الأحكام قوله تعالى: ﴿يَآ أَيـُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمُ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمُ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ...﴾ [سورة المائدة، من الآية 6].
وقوله: ﴿يَآ أَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [سورة البقرة، الآية 183].
إضافة على أحكام أخرى تتعلق بالأسرة وبعض العقوبات ونحو ذلك.
3. مميزات التشريع في هذا العهد:
أولا: التدرج في التشريع والتدرج نوعان:
- تدرج زمني: بمعنى أن الأحكام الشرعية لم تشرع جملة واحدة، بل استغرق أمر تشريعها طوال مدة الرسالة، ففي ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة فرضت الصلاة، وفي السنة الأولى من الهجرة شرع الأذان والقتال، كما شرعت أحكام من النكاح كالصداق والوليمة، وفي السنة الثانية شرع الصوم وصلاة العيدين ونحر الأضاحي، والزكاة، وحُولت فيها القبلة، وأحلت الغنائم للمجاهدين، وفي السنة الرابعة فرض الحج.
- التدرج في تشريع الحكم الواحد: ومثال ذلك ما يلي:
الصلاة: فقد شرعت في أول الأمر صلاتان: صلاة في الغداة وصلاة في العشي، ثم شرعت خمس صلوات في اليوم والليلة.
الزكاة: كانت أول الأمر اختيارية غير محددة الأنصبة والمقادير، ثم بعد ذلك فرضت محددة المقادير، وشرعت مختلفة باختلاف نوع المال.
تحريم الربا: ففي أول الأمر أوضح الله أن الربا لا نماء فيه ولا بركة، قال تعالى: ﴿وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن رِّبـًا لِّـتُرْبـُواْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبـُوا عِندَ اللَّهِ وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ [سورة الروم، الآية 39]، ثم بعد ذلك بين الله أن الربا ظلم، وأنه حرم على اليهود طيبات كثيرة كانت حلالا لهم بسبب أكلهم الربا وقد نهوا عنه، قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ اُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [سورة النساء، الآية 160].
ثم نهى الله عن تعاطي الربا في أقبح صورة، وهي الصورة التي كانت شائعة بين الناس، فقال سبحانه: ﴿يَآ أَيُّهَا الذِينَ ءَامنُواْ لاَ تَاكُلُواْ الرِّبَآ أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [سورة آل عمران، الآية 130].
ثم جاء التشريع بتحريم الربا بجميع أنواعه، قال تعالى: ﴿الذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...﴾ [سورة البقرة، من الآية 275].
تحريم الخمر: أشار القرآن في البداية إشارة خفية على ذم الخمر، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَمِن ثَـمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا...﴾ [سورة النحل، من الآية 67].
ثم أنزل الله تعالى قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا...﴾ [سورة البقرة، من الآية 219]، وهذه الآية غيرت نفوس المؤمنين الذين كانوا يظنون أن شرب الخمر فضيلة، وهذا أهم جانب في علاج النفوس، فاعتقد المسلمون بعد ذلك أن تعاطي الخمر ليس فضيلة، وان المضار التي تحويها الخمر أكثر من المنافع، وامتنع بعض المسلمين عن تعاطيها، واستمر آخرون في تناولها، ثم حرمها الإسلام في بعض الأوقات حتى يعتاد المدمنون تركها جزئيا فقال الله تبارك وتعالى: ﴿يَآ أَيـُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ...﴾ [سورة النساء، الآية 43]، ثم حرمها تحريما قاطعا بقوله: ﴿يَآ أَيـُّهَا الذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاَنصَابُ وَالاَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّن عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُّوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُم عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلَ اَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ [سورة المائدة، الآيتان 90-91].
ثانيا: رفع الحرج
وتتجلى هذه الميزة في كثير من النصوص القرآنية و النبوية، منها قوله تعالى: ﴿...وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...﴾[سورة الحج، من الآية 78].
﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [سورة المائدة، الآية 6].
﴿...يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ...﴾ [سورة البقرة، الآية 185].
﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الِانسَانُ ضَعِيفًا﴾ [سورة النساء، الآية 28].
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا اِلَّا وُسْعَهَا...﴾ [سورة البقرة، الآية 286].
وقول الرسول "صلّى الله عليه وسلم":
(يسروا ولا تعسروا).
(بُعثت بالملة السمحة الحنيفية البيضاء).
وثبت من سيرته عليه السلام أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.
ثالثا: النسخ
ويعرفه الشيخ محمد الخضري بك بقوله: "النسخ في اصطلاح الفقهاء يطلق على معنيين:
الأول: إبطال الحكم المستفاد من نص سابق بنص لاحق، ومثاله ما ورد في حديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها)، فالنص الأول يطلب الكف عن الزيارة، والنص الثاني يرفع ذلك النهي ويحل محله الإباحة أو الطلب.
الثاني: رفع عموم نص سابق أو تقييد مطلقه، ومثاله: قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ...﴾[سورة البقرة، من الآية 228]، ثم قال في سورة الأحزاب: ﴿يَآ أَيـُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُومِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا...﴾ [سورة الأحزاب، من الآية 49]. فإن النص الأول عام يضم المدخول بها وغيرها، والنص الثاني يعطي غير المدخول بها حكما خاصا بها".
ويمكن تحديد شروط النسخ في خمسة هي:
الأول: أن يكون الحكم في الناسخ والمنسوخ متناقضا، فلا يمكن العمل بهما.
الثاني: أن يكون حكم المنسوخ ثابتا قبل ثبوت حكم الناسخ.
الثالث: أن يكون حكم المنسوخ ثابتا بالشرع لا بالعادة والعرف، فإنه إذا ثبت بالعادة لم يكن رافعه ناسخا بل يكون ابتداء شرع آخر.
الرابع: كون حكم الناسخ مشروعا بطريق النقل فلا يجوز أن يكون ناسخا للمنقول، ولهذا إذا ثبت حكم منقول لم يجز نسخه بإجماع ولا بقياس.
الخامس: كون الطريق الذي ثبت به الناسخ مثل طريق ثبوت المنسوخ أو أقوى منه، ولهذا نقول: لا يجوز نسخ القرآن بالسنة.
وقد وقع النسخ رعاية لمصالح المكلفين ورفعا للحرج عنهم، ومن أمثلة النسخ ما يأتي:
قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا اِلْوَصِيَّةُ...﴾ [سورة البقرة، من الآية 180]، ذهب كثير من العلماء إلى نسخها بآية الميراث، ونص الإمام أحمد بن حنبل على ذلك فقال: [الوصية للوالدين منسوخة].
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ...﴾ [سورة البقرة، من الآية 240]، فهذه الآية تحدد مدة العدة بعام، مع وصية الزوج بالإنفاق على الزوجة من الميراث، وعدم إخراجها من بيت الزوجية طوال مدة العدة، ثم جاء الحكم بتحديد العدة بأربعة أشهر وعشرة أيام وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَالذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا...﴾ [سورة البقرة، من الآية 234].
قوله تعالى: ﴿...لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى...﴾ [سورة النساء، من الآية43]، فهذه الآية تفيد إباحة السكر في غير الصلاة، ثم نسخت بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[سورة المائدة، الآية 90].
ثانيا: عهد الصحابة
يبدأ هذا العهد من تاريخ وفاة الرسول "صلّى الله عليه وسلّم" في السنة الحادية عشرة للهجرة وينتهي في أواخر القرن الأول الهجري، ويمتاز هذا العهد باتساع رقعة الدولة الإسلامية والتي شملت بلاد الشام ومصر والعراق وفارس، ولا يخفى علينا تباين بيئات وحضارات تلك البلاد مما استتبع ظهور مسائل جديدة.
تتطلب اجتهادات تستجيب لتلك المسائل، ولذلك صدرت فتاوى عديدة عن الصحابة رضوان الله عليهم مبنية على الاجتهاد استوعبت كل ما جد من مسائل.
1. فضل الصحابة:
للصحابة رضوان الله عليهم فضل كبير، ومقام رفيع يبرز فيما يلي:
أولا: رضوان الله عليهم لقوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الاَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالاَنصَارِ وَالذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ...﴾ [سورة التوبة، من الآية 100].
ثانيا: مجالستهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وتلقيهم لتربيته المباشرة، وتشبعهم بعلم النبوة.
ثالثا: شهود الرسول بالخيرية لجيل الصحابة بقوله: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم) [رواه مسلم].
رابعا: معرفتهم لأسباب نزول القرآن، وظروف ورود الأحاديث النبوية.
2. طريقة التشريع المعتمدة في هذا العهد:
إن الصحابة رضوان الله عليهم لم يتوسعوا في وضع فرضيات والإجابة عنها، بل كانوا يكتفون بالإجابة عما ورد إليهم فعلا، وكانوا في أول عهدهم أي في خلافة أبي بكر وأول خلافة عمر رضي الله عنهما يتولون بسلطتهم التشريعية في ما لا نص فيه في جمعية تشريعية متكونة من رؤوس الصحابة، ويدل على ذلك ما رواه البغوي في مصابيح السنة، قال: [كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يجد في الكتاب وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء ؟ فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله جمع رؤوس الناس وخيارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به].
وكان عمر يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي بكر قضاء، فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به، وإلا دعا رؤوس المسلمين فإذا اجتمعوا على شيء قضى به.
وبعد الفتوحات الإسلامية واتساع رقعة البلاد الإسلامية تفرق الصحابة في الأمصار فراح كل صحابي في موقعه يفتي في ما لا نص فيه، ذلك ما استتبع اختلاف الصحابة في بعض الفتاوى تبعا لاختلاف ظروف ومصالح كل بلد.
ويمكن إرجاع الاختلاف الواقع بين الصحابة إلى الأسباب الآتية:
الأول: وجود نصوص في القرآن وفي السنة ظنية الدلالة، مما يفتح المجال للاختلاف في فهم تلك النصوص.
الثاني: عدم تدوين السنة، لذلك قد يصل حديث معين إلى أحد الصحابة دون الآخر، فتكون - بالضرورة - فتوى العالم بالحديث مختلفة مع فتوى غير العالم به.
الثالث: تباين مصالح العباد من بلد إلى آخر، ذلك ما نتج عنه اختلاف الفتاوى.
3. أشهر المفتين من الصحابة:
في المدينة المنورة: الخلفاء الأربعة، أم المؤمنين عائشة، زيد بن ثابت، عبد الله بن عمر بن الخطاب.
في مكة المكرمة: عبد الله بن عباس.
في الكوفة: عبد الله بن مسعود.
في البصرة: أنس بن مالك، أبو موسى الأشعري.
في الشام: معاذ بن جبل، عبادة بن الصامت.
في مصر: عبد الله بن عمرو بن العاص.
ثالثا: عهد التدوين والأئمة المجتهدين
كانت بداية هذا العهد في أوائل القرن الثاني الهجري، وامتد إلى غاية أواسط القرن الرابع الهجري. ويعد هذا العهد عهدا ذهبيا للتشريع الإسلامي، وقد ظهرت حركة التدوين - في هذا العهد - واضحة إذ تم تدوين السنة وفتاوى الصحابة والتابعين وتابعيهم، كما برز الأئمة والفقهاء أصحاب الملكات الفقهية الراسخة.
1. عوامل ازدهار الفقه الإسلامي في هذا العهد:
أولا: اهتمام الخلفاء العباسيين بالعلم وأهله، ويتجلى ذلك في تقريب الخلفاء للفقهاء وأهل العلم، فهارون الرشيد مثلا طلب من أبي يوسف وضع قانون إسلامي للأمور المالية، فاستجاب لذلك بتأليف كتابه "الخراج"، ونجد أبا جعفر مهتما بالفقه وأهله، وقد ورد أنه أراد أن يجعل موطأ الإمام مالك قانونا لدولته، ولكن مالكا لم يرض بذلك قائلا: [يا أمير المؤمنين لا تفعل، قد سبقت إليه أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم].
ثانيا: اتساع رقعة البلاد الإسلامية التي أصبحت تمتد من إسبانيا إلى الصين، وقد استتبع ذلك تباين ظروف تلك البلاد تبعا لاختلاف الحضارات والثقافات، مما أدى إلى استجابة الفقه لجميع التساؤلات والقضايا، وفي ذلك إثراء للفقه وتطوير له.
ثالثا: تدوين السنة، وقد كان لتدوين السنة الأثر الفعال في تنشيط الحركة الفقهية في هذا العهد، حيث أن الفقهاء يرجعون إلى السنة للبحث عن ضالتهم دون كبير جهد، مما يسهل استنباط الأحكام التي تستجيب لمستحدثات العصر.
رابعا: حصول المناظرات بين الفقهاء، فذلك من دواعي التعمق في البحث واستقراء الأدلة لإثبات كل فقيه صحة رأيه وقوة وجهة نظره، وذلك يؤدي أخيرا إلى اتساع دائرة الحركة الفقهية.
2. خصائص هذا العهد:
الأولى: أن الآراء الفقهية دونت، وهكذا أصبح الفقه مسطورا في بطون الكتب، يجيء الخلف فيرى عمل السلف مدونا منشورا بين الناس فيبني عليه من غير عناء في البحث عن الحفاظ والرواة.
الثانية: أن المذاهب تميزت وآراء المجتهدين قد تكونت، فصار لكل إمام مذهب، وله تلاميذ يتلقون عنه طريقته ويقتبسون من تفكيره.
الثالثة: أن الدولة لم تختر مذهبا من المذاهب تعمل به وتسير على منهاجه، بل يترك الأمر إلى القاضي واجتهاده، فلم يكن هناك قانون ملزم إلا الكتاب والسنة، وفي ما وراء ذلك فللقاضي رأيه واجتهاده وطريقة استنباطه.
الرابعة: كان الاجتهاد في هذا العهد حرا طليقا لم تغلق أبوابه، ولم يكن ثمة إلا من العامة يقلدون من يستفتونه، أما الفقهاء فكانوا في حرية يظلها القرآن الكريم، وتنيرها السنة النبوية، ويهديها المأثور عن الصحابة والتابعين إلى محجة الصواب.
3. أدب الاختلاف بين الفقهاء:
لقد جسد العلماء الأعلام أدب الاختلاف فيما بينهم قولا وسلوكا، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
أولا: خالف الإمام أحمد بن حنبل شيخه الإمام الشافعي في عدة مسائل فقهية، وكان يكثر له الدعاء، قائلا: والله ما بت ليلة ثلاثين سنة إلا وأدعو فيها للشافعي، فقال له ابنه: يا أبت لقد سمعتك تكثر الدعاء للشافعي، فمن هو؟ فقال له: [كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من عوض؟].
ثانيا: وقال الإمام الشافعي عن تلميذه الإمام أحمد: [لقد تركت بغداد وما خلفت فيها أورع، ولا أعقل، ولا أعلم، ولا أهدى من أحمد بن حمبل].
ثالثا: سُئل الإمام أحمد هل تصلي خلف من خرج منه الدم ولم يتوضأ؟ - وكان يفتي بنقض الوضوء من الرعاف وسيلان الدم- فأجاب: كيف لا أصلي خلف مالك وسعيد بن المسيب؟ وكانا لا يفتيان بنقض الوضوء.
رابعا: تتلمذ الإمام الشافعي عن الإمام مالك، وخالفه في مسائل، وكان يقول عن أستاذه: [إذا ذُكِر العلماء فمالك النجم].
رابعا: عهد التقليد
بدأ هذا العهد من منتصف القرن الرابع الهجري إلى غاية أواخر القرن الثالث عشر الهجري، وهو عهد فتور همم العلماء عن استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها فأصبحوا مقلدين للأئمة السابقين، وتوقفت في النهاية حركة الاجتهاد.
1. أسباب توقف حركة الاجتهاد:
أولا: انقسام الدولة الإسلامية إلى دويلات متناحرة، فانشغل ولاة الأمور بالفتن والحروب، ولم يهتم بالعلم وأهله.
ثانيا: شعور العلماء في هذا العهد بالنقص وعدم الثقة في نفوسهم وتهيبهم من الاجتهاد.
ثالثا: تعصب العلماء لآثار مدارسهم وأئمتهم، مما دفع بهم إلى التمسك بتلك الآثار وبذل الجهد من أجل إبراز صحتها ولو بكثير من التعسف.
وقد ظلمت الشريعة حينما شاعت الفتاوى الباطلة ممن ليسوا أهلا للإفتاء فتم الحكم بسد باب الاجتهاد في أواخر القرن الرابع الهجري.
وإذا كان الطابع المميز لهذا العهد هو التقليد، فقد برز - مع ذلك - علماء كبار نادوا بالاجتهاد المطلق، وخلفوا كنوزا علمية عظيمة منهم: ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني.
2. خصائص هذا العهد:
أولا: جمود الحركة الفقهية، وقصور همم معظم الفقهاء، وشيوع التقليد لأئمة الفقه السابقين.
ثانيا: انتشار الترجيح بين الروايات المنقولة.
ثالثا: التأليف على طريقة المختصرات التي تُسمى بالمتون، وقد غلب عليها الغموض فظهرت شروح المتون، ثم ظهرت إلى جانبها الحواشي.
رابعا: بروز كتب الفتاوى، وهي إجابات الفقهاء عن أسئلة الناس، مثل:
- الفتاوى الهندية.
- الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيثمي.
- مجموع فتاوى ابن تيمية.
خامسا: عهد النهضة الفقهية الحديثة
يبدأ هذا العهد من أواخر القرن الثالث عشر الهجري إلى وقتنا الحالي.
1. خصائص هذا العهد:
أولا: ابتعاد الفقهاء عن التعصب المذهبي، والاعتماد في الترجيح بين أقوال العلماء على قوة الدليل.
ثانيا: بروز الفقه المقارن في البحث والدراسة، مما ييسر الاطلاع على كنوز الفقه الإسلامي.
ثالثا: انتشار حركة التشريع واتساع دائرة تقنين الفقه الإسلامي، وكانت البداية بظهور مجلة الأحكام العدلية عام 1293ﻫ/1876م بالدولة العثمانية احتوت على أحكام المعاملات المدنية، ثم اتسع التقنين ليشمل المجالات الأخرى: الإدارية والجنائية وغيرها...
2. مظاهر النهضة الفقهية الحديثة:
أولا: تأليف الكتب بالاعتماد على مختلف المذاهب الفقهية، واعتماد الدراسات المقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي في المناهج الدراسية والرسائل الجامعية في كثير من الجامعات والكليات.
ثانيا: إنشاء مجمع الفقه الإسلامي أنشأته رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، ويهتم بدراسة المسائل الجديدة التي تهم المسلمين.
ثالثا: إنشاء مجمع البحوث الإسلامية، وقد أنشئ في الأزهر الشريف بموجب القانون 103 لسنة 1961م، ومن اختصاصاته تقنين الفقه الإسلامي بجميع مذاهبه وإصدار بحوث فقهية متنوعة.
رابعا: إنجاز مشاريع الموسوعات الفقهية مثل:
1. مشروع موسوعة الفقه الإسلامي بكلية الشريعة في جامعة دمشق.
2. مشروع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة.
3. مشروع جمعية الدراسات الإسلامية بالقاهرة.
4. مشروع موسوعة الفقه الإسلامي الذي أعدته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت.
خامسا: عقد ملتقيات لدراسة ومناقشة قضايا متنوعة، مثل ملتقيات الفكر الإسلامي التي كانت تعقد سنويا في الجزائر.
سادسا: تقنين الفقه الإسلامي، فقد ظهرت الحاجة إلى ضرورة صياغة الفقه الإسلامي في مواد محددة لتسهيل العثور على الحكم المراد، ففي أواخر القرن الثالث عشر الهجري قامت الخلافة العثمانية بتشكيل لجنة من العلماء لتقنين أحكام المعاملات اعتمادا على الفقه الحنفي، وشرعت تلك اللجنة في عملها سنة 1285ﻫ-1869م، وانتهت منه سنة 1293ﻫ-1876م، وسمي ذلك التقنين (مجلة الأحكام العدلية)، ثم أصدرت الدولة العثمانية (قانون العائلة) سنة 1336ﻫ-1917م، ثم صدرت عدة قوانين تقنينا للفقه الإسلامي، منها ما يلي:
- في مصر:
أ. قوانين الأحوال الشخصية:
1. قانون متضمن لبعض مسائل النفقة والعدة والمفقود، القانون رقم 25 لسنة 1920م.
2. قانون متضمن لبعض أحكام الطلاق ودعاوى النسب والمهر والنفقة، القانون رقم 25 لسنة 1929م.
3. قانون الميراث رقم 77 لسنة 1943م.
4. قانون الوصية رقم 71 لسنة 1946م.
5. قانون الوقف رقم 48 لسنة 1946م.
6. قانون الولاية على المال رقم 180 لسنة 1952م.
ب. ما أعده المرحوم محمد قدري باشا من مشروعات قوانين منها:
1. كتاب مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان في المعاملات الشرعية.
2. كتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية.
3. قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات الأوقاف.
ج. ما أصدره الأزهر الشريف:
1. أربع مجموعات في المعاملات المدنية من فقه المذاهب الأربعة.
2. مشروع قانون الحدود الشرعية.
د. انجازات اللجان الفنية التي شكلها د. صوفي أبو طالب (رئيس مجلس الشعب المصري الأسبق):
1. مشروع قانون المعاملات المدنية (1044 مادة).
2. مشروع قانون الإثبات (182 مادة).
3. مشروع قانون التقاضي (512 مادة).
4. مشروع قانون العقوبات (635 مادة).
5. مشروع قانون التجارة (776 مادة).
6. مشروع قانون التجارة البحري (443 مادة).
- في السودان:
صدرت قوانين منها:
1. قانون العقوبات.
2. قانون الإجراءات الجنائية.
3. قانون الإجراءات المدنية.
4. قانون الإثبات.
- في الجمهورية العربية اليمنية:
صدرت عدة قوانين منها:
1. القانون رقم 90 لسنة 1979م الخاص بالإثبات الشرعي.
2. الكتاب الأول والكتاب الثاني من القانون المدني رقم 10 لسنة 1979م، ورقم 11 لسنة 1979م.
3. القانون رقم 42 لسنة 1981م الخاص بالمرافعات.
- صدور عدة قوانين في الأحوال الشخصية منها:
1. قانون حقوق العائلة الأردني رقم 92 لسنة 1951م.
2. قانون الأحوال الشخصية السوري رقم 59 لسنة 1953م.
3. مجلة الأحوال الشخصية التونسية الصادرة بتاريخ 13/08/1956م.
4. مدونة الأحوال الشخصية المغربية الصادرة بتاريخ 06/12/1957م.
5. قانون الأحوال العراقي رقم 188 لسنة 1959م.
6. قانون الأسرة الجزائري رقم 11-84 الصادر بتاريخ 09/06/1984م.
مدخل عام إلى علم أصول الفقه
أولا: تعريفه
1. لغة: أصول: جمع أصل، بمعنى أسفل الشيء، أو ما يبنى عليه غيره، و"الابتناء" ما يشمل الحسي كابتناء السقف على الجدار يشمل الابتناء العقلي كابتناء الحكم على دليله "الفقه: الفهم، ومنه قول الله تعالى: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ [سورة طه، الآيتان 27-28]، وقول الرسول : (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) [متفق عليه].2. اصطلاحا: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
الفرق بين الأصولي والفقيه:1. الأصولي ينسب إلى الأصول، ومجال بحثه هو: الأدلة الإجمالية لتقرير القواعد الأصولية.2. الفقيه ينسب إلى الفقه، ومجال بحثه هو: الأدلة الجزئية، إذ يعمل على استنباط الأحكام التفصيلية اعتمادا على القواعد التي يقررها الأصولي، ومثال ذلك حكم الفقيه بوجوب الوفاء بالعقود، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ...﴾ [سورة المائدة، الآية 1]، عملا بقاعدة أصولية مفادها أن الأمر للوجوب.
ثانيا: فائدته
إن علم أصول الفقه علم جليل القدر، بالغ الأهمية، عظيم النفع، متعدد الفوائد، فمن فوائده ما يأتي:1. معرفة مناهج المجتهدين في استنباطهم للأحكام، وبذلك تطمئن النفوس إلى الأحكام الشرعية التي توصل إليها المجتهدون.2. هو العلم الذي يرسم للمجتهد الطريق الصحيح الموصل إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، ويزوده بالأدوات اللازمة لتحقيق ذلك. وهذا ييسر للعلماء معرفة حكم الشرع في كل مكان وزمان تحقيقا لمسلمة قطعية هي: ديمومة صلاحية الشريعة الإسلامية.3. هو الوسيلة الناجحة لحفظ الدين من التحريف والتضليل، وذلك من خلال المباحث التي يتناولها، ومنها:تباين مصادر التشريع الأصلية والتكميلية، وضبط مصادر التشريع، وتحديد أنواع الأحكام الشرعية، ودراسة القواعد اللغوية الأصولية.4. هو علم يكون لدى دراسة ملكة عقلية وفقهية تمكنه من معرفة المنهج السليم الذي يتوقف عليه الاجتهاد واستنباط الأحكام.
ثالثا: تدوينه
كان الإمام الشافعي أول من دون علم أصول الفقه ووضع قواعده في رسالته الأصولية، وهي أول ما كتب في هذا العلم، وذلك في أواخر القرن الثاني الهجري، قال ابن خلدون: [هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه بما إن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية، وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الحكام خصوصا، فمنهم أخذ معظمها، وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر وممارسة النقلة، وخبرتهم بهم، فلما اقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة كما قررناه من قبل احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فنا قائما برأسه سموه: أصول الفقه، وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي اله عنه].
وهناك أسباب ساعدت الإمام الشافعي على تقعيد قواعد علم الأصول أهمها:1. تشبعه بثروة علمية عظيمة، روافدها ما خلفه الصحابة والتابعون من علم، وكذا فقه كثير من العلماء، مثل الإمام مالك، ومحمد بن الحسن الشيباني.2. شهوده المناظرات والمناقشات التي كانت تدور بين فقهاء المدينة المنورة وفقهاء العراق.3. ضعف اللسان العربي بعدما اختلط العرب بالعجم، وقد نتج عنه صعوبة في استنباط الأحكام من أدلتها.4. بروز مسائل جديدة، يحتاج للفصل فيها إلى إتباع قواعد معينة هي من صميم علم الأصول.
رابعا: طرق التأليف في علم الأصول
1. لغة: أصول: جمع أصل، بمعنى أسفل الشيء، أو ما يبنى عليه غيره، و"الابتناء" ما يشمل الحسي كابتناء السقف على الجدار يشمل الابتناء العقلي كابتناء الحكم على دليله "الفقه: الفهم، ومنه قول الله تعالى: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ [سورة طه، الآيتان 27-28]، وقول الرسول : (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) [متفق عليه].2. اصطلاحا: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
الفرق بين الأصولي والفقيه:1. الأصولي ينسب إلى الأصول، ومجال بحثه هو: الأدلة الإجمالية لتقرير القواعد الأصولية.2. الفقيه ينسب إلى الفقه، ومجال بحثه هو: الأدلة الجزئية، إذ يعمل على استنباط الأحكام التفصيلية اعتمادا على القواعد التي يقررها الأصولي، ومثال ذلك حكم الفقيه بوجوب الوفاء بالعقود، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ...﴾ [سورة المائدة، الآية 1]، عملا بقاعدة أصولية مفادها أن الأمر للوجوب.
ثانيا: فائدته
إن علم أصول الفقه علم جليل القدر، بالغ الأهمية، عظيم النفع، متعدد الفوائد، فمن فوائده ما يأتي:1. معرفة مناهج المجتهدين في استنباطهم للأحكام، وبذلك تطمئن النفوس إلى الأحكام الشرعية التي توصل إليها المجتهدون.2. هو العلم الذي يرسم للمجتهد الطريق الصحيح الموصل إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، ويزوده بالأدوات اللازمة لتحقيق ذلك. وهذا ييسر للعلماء معرفة حكم الشرع في كل مكان وزمان تحقيقا لمسلمة قطعية هي: ديمومة صلاحية الشريعة الإسلامية.3. هو الوسيلة الناجحة لحفظ الدين من التحريف والتضليل، وذلك من خلال المباحث التي يتناولها، ومنها:تباين مصادر التشريع الأصلية والتكميلية، وضبط مصادر التشريع، وتحديد أنواع الأحكام الشرعية، ودراسة القواعد اللغوية الأصولية.4. هو علم يكون لدى دراسة ملكة عقلية وفقهية تمكنه من معرفة المنهج السليم الذي يتوقف عليه الاجتهاد واستنباط الأحكام.
ثالثا: تدوينه
كان الإمام الشافعي أول من دون علم أصول الفقه ووضع قواعده في رسالته الأصولية، وهي أول ما كتب في هذا العلم، وذلك في أواخر القرن الثاني الهجري، قال ابن خلدون: [هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه بما إن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية، وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الحكام خصوصا، فمنهم أخذ معظمها، وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر وممارسة النقلة، وخبرتهم بهم، فلما اقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة كما قررناه من قبل احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فنا قائما برأسه سموه: أصول الفقه، وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي اله عنه].
وهناك أسباب ساعدت الإمام الشافعي على تقعيد قواعد علم الأصول أهمها:1. تشبعه بثروة علمية عظيمة، روافدها ما خلفه الصحابة والتابعون من علم، وكذا فقه كثير من العلماء، مثل الإمام مالك، ومحمد بن الحسن الشيباني.2. شهوده المناظرات والمناقشات التي كانت تدور بين فقهاء المدينة المنورة وفقهاء العراق.3. ضعف اللسان العربي بعدما اختلط العرب بالعجم، وقد نتج عنه صعوبة في استنباط الأحكام من أدلتها.4. بروز مسائل جديدة، يحتاج للفصل فيها إلى إتباع قواعد معينة هي من صميم علم الأصول.
رابعا: طرق التأليف في علم الأصول
سلك العلماء ثلاثة طرق في التأليف في علم الأصول، وهي:1- طريقة المتكلمين ( الشافعية ): وتهتم بتحرير المسائل و تقرير القواعد، فالأصل أو القاعدة - في منطق هذه الطريقة - هو ما أيده العقل وسانده البرهان، بغض النظر عن مدى موافقة ذلك للفروع المذهبية أو مخالفتها.والأصول في نظر أصحابها فن مستقل يبني عليه الفقه، وذلك منهج علماء الكلام، لذا سميت هذه الطريقة بطريقة المتكلمين، كما اشتهرت أيضا بطريقة الشافعية، ومن أهم الكتب التي ألفت وفق هذه الطريقة:- الرسالة للإمام الشافعي، تـوفي 462 ﻫ.- التقريب و الإرشاد في ترتيب طرق الاجتهاد للقاضي أبي بكر الباقلاني توفي 403ﻫ.- القواطع، للإمام أبي المظفر السمعاني، تـوفي 462 ﻫ.- المعتمد، لأبي الحسن البصري، تـوفي 463 ﻫ.- اللمع، للإمام أبي إسحاق الشيرازي، تـوفي 476 ﻫ.- البرهان، لإمام الحرمين الجو يني، تـوفي 478 ﻫ.- المستصفى، لأبي حامد الغزالي، تـوفي 505 ﻫ.- شفاء الغليل في بيان مسالك التعليل، للغزالي.- المنخول من تعليقات الأصول، للغزالي.- المحصول، لفخر الدين الرازي، تـوفي 606 ﻫ.- الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، تـوفي 631 ﻫ.
2- طريقة الفقهاء (الحنفية):اتجه جهد أصحاب هذه الطريقة إلى تقرير القواعد الأصولية على ضوء الفروع الفقهية، ونجدهم يصوغون قواعد أصولية تتفق مع الاستنباطات الفقهية للأئمة الأحناف، وسميت بطريقة الفقهاء والحنفية لأن اليد الطولى في تأسيسها تعود لفقهاء الحنفية.وأهم الكتب التي ألفت وفق هذه الطريقة:- مآخذ الشرائع، للما تريدي، تـوفي 330 ﻫ.- الأصول، للإمام أبي الحسن الكرخي، تـوفي 340 ﻫ.- الأصول، لأبي بكر الجصاص، تـوفي 370 ﻫ.- تأسيس النظر، لأبي زيد الدبوسي، تـوفي 430 ﻫ.- الأصول، للبزدوي، تـوفي 483 ﻫ.- الأصول، للسرخسي، تـوفي 490 ﻫ.- تنقيح الفصول في علم الأصول، للقرافي، تـوفي 684 ﻫ.- المنار، للنسفي، تـوفي 648 ﻫ.- التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، للإمام الإسنوي، تـوفي 772 ﻫ.
3- الطريقة الجامعة بين الطريقتين السابقتين: وهي تجمع بين مزايا الطريقتين بحيث أنها تتجه إلى تقرير القواعد الأصولية وفق ما تقتضيه طريقة الشافعية، كما تهتم بتطبيقها على الفروع بمعنى استخراج الأحكام الفقهية من القواعد الأصولية.وأهم الكتب التي ألفت وفق هذه الطريقة:- بديع النظام، الجامع بين أصول البزدوي والإحكام، للإمام مظفر الدين الساعاتي، تـوفي 694 ﻫ.- تنقيح الأصول، لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود البخاري، تـوفي 747 ﻫ.- جمع الجوامع، للإمام تاج الدين السبكي، تـوفي 771 ﻫ.- التحرير، لكمال الدين بن الهمام، تـوفي 861 ﻫ.- مسلم الثبوت، للعلامة محيي الدين بن عبد الشكور الحنفي، تـوفي 1119 ﻫ، وعليه شرح يسمى "فواتح الرحموت"، لعبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري.
4. المؤلفات الحديثة في علم الأصول:لقد الفت كتب حديثة في علم الأصول من قبل علماء لهم وزن في مجال لدراسات الشرعية، وقد ظهرت بأسلوب سهل يتجنب كثيرا من التعقيدات تيسيرا للدارسين والباحثين في علم الأصول، كما تزودهم بمفاتيح أساسية تمكنهم من فهم أمهات كتب الأصول، وأذكر من تلك المؤلفات ما يأتي:- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني، تـوفي 125 ﻫ.- تسهيل الوصول إلى علم الأصول، للشيخ محمد بن عبد الرحمان المحلاوي، تـوفي 1920م.- أصول الفقه، للشيخ محمد الخضري بك، تـوفي 1927م.- علم أصول الفقه، للشيخ عبد الوهاب خلاف، تـوفي 1956م.- أصول الفقه الإسلامي، لزكي الدين شعبان.- أصول التشريع الإسلامي، لعلي حسب الله.- أصول الفقه، لمحمد زكريا البرديسي.- أصول الفقه الإسلامي، لمحمد سلام مدكور.- أصول الفقه الإسلامي، لزكريا البري.- أصول الفقه الإسلامي، لعبد المجيد محمود مطلوب.- مباحث الكتاب و السنة، لمحمد سعيد رمضان البوطي.- دراسات في أصول الفقه، لعبد الفتاح حسني الشيخ.
2- طريقة الفقهاء (الحنفية):اتجه جهد أصحاب هذه الطريقة إلى تقرير القواعد الأصولية على ضوء الفروع الفقهية، ونجدهم يصوغون قواعد أصولية تتفق مع الاستنباطات الفقهية للأئمة الأحناف، وسميت بطريقة الفقهاء والحنفية لأن اليد الطولى في تأسيسها تعود لفقهاء الحنفية.وأهم الكتب التي ألفت وفق هذه الطريقة:- مآخذ الشرائع، للما تريدي، تـوفي 330 ﻫ.- الأصول، للإمام أبي الحسن الكرخي، تـوفي 340 ﻫ.- الأصول، لأبي بكر الجصاص، تـوفي 370 ﻫ.- تأسيس النظر، لأبي زيد الدبوسي، تـوفي 430 ﻫ.- الأصول، للبزدوي، تـوفي 483 ﻫ.- الأصول، للسرخسي، تـوفي 490 ﻫ.- تنقيح الفصول في علم الأصول، للقرافي، تـوفي 684 ﻫ.- المنار، للنسفي، تـوفي 648 ﻫ.- التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، للإمام الإسنوي، تـوفي 772 ﻫ.
3- الطريقة الجامعة بين الطريقتين السابقتين: وهي تجمع بين مزايا الطريقتين بحيث أنها تتجه إلى تقرير القواعد الأصولية وفق ما تقتضيه طريقة الشافعية، كما تهتم بتطبيقها على الفروع بمعنى استخراج الأحكام الفقهية من القواعد الأصولية.وأهم الكتب التي ألفت وفق هذه الطريقة:- بديع النظام، الجامع بين أصول البزدوي والإحكام، للإمام مظفر الدين الساعاتي، تـوفي 694 ﻫ.- تنقيح الأصول، لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود البخاري، تـوفي 747 ﻫ.- جمع الجوامع، للإمام تاج الدين السبكي، تـوفي 771 ﻫ.- التحرير، لكمال الدين بن الهمام، تـوفي 861 ﻫ.- مسلم الثبوت، للعلامة محيي الدين بن عبد الشكور الحنفي، تـوفي 1119 ﻫ، وعليه شرح يسمى "فواتح الرحموت"، لعبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري.
4. المؤلفات الحديثة في علم الأصول:لقد الفت كتب حديثة في علم الأصول من قبل علماء لهم وزن في مجال لدراسات الشرعية، وقد ظهرت بأسلوب سهل يتجنب كثيرا من التعقيدات تيسيرا للدارسين والباحثين في علم الأصول، كما تزودهم بمفاتيح أساسية تمكنهم من فهم أمهات كتب الأصول، وأذكر من تلك المؤلفات ما يأتي:- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني، تـوفي 125 ﻫ.- تسهيل الوصول إلى علم الأصول، للشيخ محمد بن عبد الرحمان المحلاوي، تـوفي 1920م.- أصول الفقه، للشيخ محمد الخضري بك، تـوفي 1927م.- علم أصول الفقه، للشيخ عبد الوهاب خلاف، تـوفي 1956م.- أصول الفقه الإسلامي، لزكي الدين شعبان.- أصول التشريع الإسلامي، لعلي حسب الله.- أصول الفقه، لمحمد زكريا البرديسي.- أصول الفقه الإسلامي، لمحمد سلام مدكور.- أصول الفقه الإسلامي، لزكريا البري.- أصول الفقه الإسلامي، لعبد المجيد محمود مطلوب.- مباحث الكتاب و السنة، لمحمد سعيد رمضان البوطي.- دراسات في أصول الفقه، لعبد الفتاح حسني الشيخ.
مصادر التشريع الإسلامي
-أ- المصادر المتفق عليها
أولا: القرآن الكريم
1- تعريفه: [هو كلام الله تعالى المعجز المنزل على سيدنا محمد باللفظ العربي، المنقول إلينا بالتواتر، المكتوب بالمصاحف، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس].
2- حجيته: اتفق جميع المسلمين على حجية القرآن الكريم، ووجوب العمل بمقتضى كل حكم ورد فيه، ويعد المرجع الأول الذي يعود إليه المجتهد لمعرفة حكم الله، ولا ينتقل إلى غيره من المصادر إلا عند عدم وجود الحكم المبتغى فيه.
3- بعض وجوه إعجازه: اقتضت حكمة الله عز و جل أن يؤيد أنبياءه ورسله بالمعجزات للدلالة على أنه مرسلهم ومكلفهم بتبليغ دينه، وقد خص الله الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم بأعظم معجزة تمثلت في "القرآن الكريم".
وليس سهلا أن أتناول جميع وجوه الإعجاز في القرآن، لذلك أكتفي بذكر بعضها اختصارا على الوجه الآتي:
أ. فصاحة ألفاظه وبلاغة عباراته: وقد بلغ القرآن في ذلك أعلى المستويات، وبذلك شهد علماء اللغة وأئمة البيان، وقد تحدى الله العرب وهم عمالقة الفصاحة والبلاغة بالإتيان بمثل القرآن فعجزوا، ثم تحداهم بأن يأتوا بعشر سور فلم يقدروا، ثم تحداهم بأن يأتوا بسورة فعجزوا، قال تعالى:
﴿قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [سورة الإسراء، الآية 88].
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [سورة هود، الآية 13].
﴿يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [سورة يونس، الآية 38].
ثم يؤكد عجز البشر عن الإتيان بسورة واحدة - حاضرا ومستقبلا - فقال: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [سورة البقرة، الآيتان 23- 24].
ب. الإخبار عن المغيبات:
- إخبار الله تعالى عن انتصار الروم على الفرس قبل وقوع الحرب: ﴿الم* غُلِبَتْ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [سورة الروم، الآيات 1- 5].
- إخبار الله عن فتح مكة: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [سورة الفتح، الآية 27].
- الإخبار بواقعات وحوادث وقعت سابقا، نجد لها أثرا في الصحيح من الكتب السماوية، كما قص القرآن أخبار الأنبياء مع أقوامهم، قال تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [سورة هود، الآية 49].
ج. اشتماله على الأحكام الشرعية المختلفة المتعلقة بالعقيدة والعبادة و الأخلاق والمعاملات.
د. بقاؤه وخلوده، مصداقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [سورة الحجر، الآية 9].
ﻫ. الإعجاز العلمي في القرآن الكريم: إن القرآن الكريم كتاب هداية وتشريع، ولكن هذا لا يمنع من وجود إشارات إلى حقائق علمية أكدها العلم الحديث، من ذلك مثلا في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ [سورة الأنبياء، الآية 30]، وفي هذه إشارة إلى أن الأرض كانت جزءا من المجموعة الشمسية، ثم انفصلت عنها لتكون صالحة لاستقبال الإنسان على ظهرها، و قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [سورة الأنعام، الآية 125]، ففي هذه الآية إشارة إلى شعور الإنسان بنقص الأكسجين كلما ارتقى في أجواء السماء، و قوله تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [سورة الذاريات، الآية 49]، وقوله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة يس، الآية 36]، إشارة إلى انبثاث الزوجية في كل شيء، وقوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ [سورة القيامة، الآيات 3-4]، إشارة إلى اختلاف بصمات البشر.
4- حكمة نزول القرآن منجما:
اقتضت حكمة الله عز وجل أن ينزل القرآن مفرقا مستغرقا مدة الرسالة كلها، وذلك لحكم يمكن تلخيصها فيما يلي:
أ. تثبيت قلب النبي : ويتجلى ذلك في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [سورة الفرقان، الآية 32]، وحينما تنزل الآيات على النبي يقوى صبره، وتشحذ همته، كيف لا والله يخاطبه بمثل هذه الآيات:﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ...﴾ [سورة الأحقاف، الآية 35]، ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ [سورة الطور، الآية 48]، ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة هود، الآية 120]، ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [سورة الأنعام، الآية 34].
ب. التلطف بالنبي عند نزول القرآن: إن للقرآن هيبة وجلالا ووقارا، وذلك يستدعي التلطف بالنبي فأنزله الله منجما، يقول تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [سورة المزمل، الآية 5]، ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة الحشر، الآية 21]، فإذا كان ذلك حال الجبل لو أنزل عليه القرآن، فكيف بالنبي وهو أرق الناس قلبا، وأكثرهم تقديرا لكلام الله؟
وتصف أم المؤمنين عائشة حال الرسول حين يتنزل عليه القرآن بقولها: (لقد رأيته حين ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا).
ج. تقريع الكفار باستمرار، وتجديد تذكيرهم بانحرافهم عن الطريق المستقيم، وفي المقابل، يثبت الله المؤمنين ويواسيهم، ويفرغ عليهم صبرا ويقينا.
د. التدرج في تربية المجتمع الإسلامي، وذلك بتبديد الرذائل، وزرع الفضائل، وذلك بآيات التخلية وآيات التحلية.
ﻫ. تيسير حفظ القرآن الكريم وفهمه للمسلمين، وذلك كونهم أميين: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سورة الجمعة، الآية 2].
و. التدرج في تشريع الأحكام، ومثال ذلك الخمر الذي تم وفق تدرج حكيم حسب المراحل التالية:
المرحلة الأولى: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [سورة النحل، الآية 67].
المرحلة الثانية: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 219].
المرحلة الثالثة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ...﴾ [سورة النساء، الآية 43].
المرحلة الرابعة: وهي مرحلة التحريم القطعي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ﴾ [سورة المائدة، الآيتان 90-91].
5- أنواع الأحكام التي اشتمل عليها القرآن الكريم: اشتمل القرآن الكريم على جميع الأحكام التي تخص الإنسان، ويمكن تصنيفها في الأنواع التالية:
أ. الأحكام الإعتقادية: وهي الأحكام المتعلقة بالعقيدة، ومن الآيات التي تنص على تلك الأحكام ما يأتي:
﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [سورة البقرة، الآية 285].
﴿الم* اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [سورة آل عمران، الآيتان 1- 2].
﴿...لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [سورة الشورى، الآية 11].
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [سورة الحشر، الآيتان 23- 24].
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سورة الإخلاص].
ب. الأحكام الأخلاقية: وهي الأحكام المتعلقة بأمهات الفضائل، ومن الآيات التي تنص على تلك الأحكام ما يلي:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [سورة القلم، الآية 4].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [سورة التوبة، الآية 119].
﴿...وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [سورة النحل، الآية 126].
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [سورة آل عمران، الآية 134].
﴿...وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ...﴾ [سورة الحشر، الآية 9].
ج. الأحكام العملية: وتنقسم إلى قسمين:
1. عبادات.
2. معاملات.
ومن الآيات التي تنص على تلك الأحكام ما يلي:
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [سورة البقرة، الآية 43].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 183].
﴿...وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا...﴾ [سورة آل عمران، الآية 97].
﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [سورة النساء، الآية 7].
﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ...﴾ [سورة البقرة، الآية 229].
﴿...وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...﴾ [سورة البقرة، الآية 275].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...﴾ [سورة البقرة، الآية 282].
﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 179].
6- بيان القرآن للأحكام
جاء بيان القرآن للأحكام على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: بيان كلي أي بذكر القواعد والمبادئ العامة التي تكون أساسا لتفريع الأحكام وابتنائها عليها، مثل:
أ. الأمر بالشورى: قال تعالى: ﴿...وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ...﴾ [سورة آل عمران، الآية 159]، وقال أيضا: ﴿...وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ...﴾[سورة الشورى، الآية 38].
ب. الأمر بالعدل والحكم به: قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [سورة النحل، الآية 90].
وقال أيضا: ﴿...وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ...﴾ [سورة النساء، الآية 58].
ج. لا يسأل الإنسان عن ذنب غيره: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى...﴾ [سورة فاطر، الآية 18].
د. العقوبة بقدر الجريمة: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا...﴾ [سورة الشورى، الآية.40].
ﻫ. حرمة مال الغير: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية 188].
و. الوفاء بالالتزامات، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ... [سورة المائدة، الآية 1].
ز. لا حرج و لا ضيق في الدين: ﴿...وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...﴾ [سورة الحج، الآية 78].
النوع الثاني: بيان إجمالي، أي ذكر الأحكام بصورة مجملة تحتاج إلى بيان و تفصيل، ومن هذه الأحكام:
أ. وجوب الصلاة والزكاة، قال تعالى: ﴿...فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ...﴾ [سورة الحج، الآية 78].
ولم يبين القرآن عدد ركعات الصلاة وكيفيتها، فجاءت السنة بتفصيل ذلك، قال : (صلوا كما رأيتموني أصلي) [رواه مسلم]، وكذلك جاءت السنة ببيان أحكام الزكاة، وتحديد مقاديرها وأنصبتها.
ب. وجوب الحج: ﴿...وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا...﴾ [سورة آل عمران، الآية 97]، فجاءت السنة بتفصيل وبيان الحج وأركانه، قال : (خذوا عني مناسككم) [مسلم].
ج. وجوب القصاص: ﴿...كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ...﴾ [سورة البقرة، الآية 178]، فجاءت السنة ببيان شروط القصاص.
د. حل البيع وحرمة الربا: ﴿...وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ﴾ [سورة البقرة، الآية 275]، فجاءت السنة ببيان البيع الحلال والبيع الحرام والمقصود بالربا.
النوع الثالث: بيان تفصيلي: أي ذكر الأحكام بصورة تفصيلية لا إجمال فيها، مثل: أنصبة الورثة، وكيفية الطلاق وعدده، وكيفية اللعان بين الزوجين، والمحرمات من النساء في النكاح.
7- دلالة القرآن على الأحكام:
إن آيات القرآن الكريم ثابتة بطريق قطعي، لأنها نقلت إلينا بالتواتر الذي يوحي بالجزم أن الآية التي يقرؤها كل مسلم في بقاع الأرض هي نفسها التي تلاها الرسول صلى الله عليه و سلم على أصحابه، و هي التي نزل بها جبريل عليه السلام من اللوح المحفوظ من غير تبديل و لا تغيير، تحقيقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون...﴾ [سورة الحجر، الآية 9].
أما دلالة النص القرآني على الحكم فليست واحدة، فمنها ما هو قطعي الدلالة و منها ما هو ظني الدلالة. فالنص القطعي الدلالة هو ما دل معنى متعين فهمه منه، و لا يحتمل تأويلا آخر معه، و ذلك مثل النصوص التي وردت فيها أعداد معينة أو أنصبة محددة في المواريث و الحدود، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ...﴾ [سورة النساء، الآية 12]، فإن دلالة النص قطعية على أن فرض الزوج النصف، و قال تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ...﴾ [سورة النور، الآية 2]، فالآية قطعية الدلالة في مقدار حد الزنا، و قال تعالى في كفارة اليمين: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ...﴾ [سورة المائدة، الآية 89]، فالعدد قطعي الدلالة، ولا تقبل الكفارة بأقل من ذلك ولا بأكثر منه.
أما النص الظني الدلالة فهو ما يدل على عدة معان، أو ما يدل على معنى، و لكنه يحتمل معاني أخرى، مثل لفظة "القرء" في قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ...﴾ [سورة البقرة، الآية 228].
فلفظ القرء في اللغة مشترك بين معنيين: الطهر والحيض، والنص القرآني يحتمل أن يراد منه ثلاثة أطهار كما قال الشافعي وغيره، ويحتمل أن يراد منه ثلاث حيضات كما قال الإمام أبو حنيفة ومن معه.
ثانيا: السنة النبوية
1- تعريف السنة:
أ. لغة: الطريقة المعتادة، حسنة كانت أو سيئة، ومنه قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾ [سورة الإسراء، الآية 77]، ومنه قول رسول الله : (من سن في الإسلام حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) [مسلم وغيره].
2- حجيتها: اتفق العلماء على أن السنة الصحيحة الثابتة التي صدرت عن رسول الله بقصد التشريع والإقتداء حجة على المسلمين، ومصدر تشريعي لهم متى ثبتت بطريق القطع أو غلبة الظن.
أ. أدلة من القرآن على حجية السنة:
﴿...وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...﴾ [سورة النحل، الآية 44].
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [سورة النور، الآية 56].
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ...﴾ [سورة آل عمران، الآية 31].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ...﴾ [سورة النساء، الآية 59].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ [سورة الأنفال، الآية 20].
﴿مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ...﴾ [سورة النساء، الآية 80].
﴿...فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...﴾ [سورة النساء، الآية 59].
﴿...وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا...﴾ [سورة الحشر، الآية 7].
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [سورة الأحزاب، الآية 36].
﴿فلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [سورة النساء، الآية 65].
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ...﴾ [سورة النساء، الآية 64].
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [سورة الأحزاب، الآية 21].
هذه النصوص القرآنية - وغيرها كثير- برهان ودليل قاطع على حجية السنة، واعتبارها مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي، وأن أحكام السنة تشريع إلهي واجب الإتباع.
ب. أدلة من السنة على حجية السنة:
(تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله و سنتي).
(ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه).
(روى معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بعثه إلى اليمن، قال له: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي لا ألو، قال معاذ: فضرب رسول الله صدري، ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي الله ورسوله).
ج. إجماع الصحابة:أجمع صحابة رسول الله في حياته وبعد وفاته على وجوب إتباع سنته والعمل بها، والالتزام بما ورد فيها من أحكام، وتنفيذ ما فيها من أوامر، والانتهاء عما فيها من نواه.
3- مرتبة السنة في الاحتجاج بها:تأتي السنة النبوية - في الاحتجاج بها - في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم، فالمفتي والمجتهد يرجع إلى الكتاب أولا ثم إلى السنة ثانيا في كل ما يطرح من سؤال أو يقع من قضية.
4- تدوين السنة: من الثابت المعلوم أن السنة لم تكتب في عهد الرسول عليه السلام كما كتب القرآن، لأن الرسول نهاهم عن كتابتها خوف اختلاطها بالقرآن، وتوفي عليه السلام وهي محفوظة في صدور الصحابة كل على مقدار استعداده ومبلغ حضوره مجالس الرسول عليه السلام، وفي خلافة أبي بكر رضي الله عنه لم يفكر أحد في تدوينها للسبب السابق، ولقصر خلافة الصديق، فلما وليها عمر رضي الله عنه عرضت له فكرة التدوين، فشاور الصحابة فيها، فأشاروا عليه بجمعها، ولكنه مكث شهرا يستخير الله حتى انتهى إلى العدول عن هذا الأمر لأسباب منها:
أنه وجد هذا العمل يصعب تنفيذه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي تاركا سنته موزعة في صدور أصحابه وهم كثيرون تفرقوا في البلدان، كما كان يخشى اختلاطها بالقرآن وانشغال الناس بها عنه، ثم عرضت الفكرة للخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في أواخر حياته، ففي عام 100ﻫ أمر أبا بكر بن حزم قاضي المدينة أن يجمع السنة فامتثل، و لكن الخليفة توفي بعد عام في سنة 101ﻫ، والعام الواحد لا يكفي لتحقيق هذا الطلب حينذاك، ولم يعن من جاء بعده من خلفاء بني أمية بهذا الأمر لانشغالهم بالسياسة وإدارة الحكم، إذا استثنينا ما روي عن هشام بن عبد الملك أنه لما تولى الحكم سنة 105ﻫ حث ابن شهاب الزهري على تدوين الحديث بل قيل أنه أكرهه على ذلك، وتوفي هشام سنة 125ﻫ.
وفي عهد العباسيين جمعت السنة، وابتدأ تدوينها في منتصف القرن الثاني الهجري تقريبا في مكة والمدينة والشام ومصر والكوفة والبصرة، وكل بلد إسلامي وجد به علماء دونوا السنة، أمثال الإمام مالك بالمدينة، والإمام الأوزاعي بالشام، والإمام الليث بن سعد في مصر، وسفيان الثوري في الكوفة، إلا أن هذه المجموعات لم يصلنا منها إلا القليل، مثل: كتاب " الموطأ " للإمام مالك بن أنس، وهو يعطينا صورة عن الكتب التي ألفت في السنة حينذاك، وهي أنها كانت خليطا من الأحاديث و أقوال الصحابة و فتاواهم، و لم يعن أصحابها بالسنة عناية من جاء بعدهم ممن تخصص في جمع الأحاديث وترتيبها.
تلك هي الخطوة الأولى في جمع السنة ثم تلتها الخطوة الثانية، وفيها عني أصحابها بإفراد أحاديث رسول الله عن فتاوى الصحابة وأقوال التابعين، و كانت هذه الخطوة على رأس المائتين للهجرة، و لكنها ابتدأت بطريقة المسانيد، وهي جمع أحاديث كل صحابي على حدا في جميع الأبواب، وهذه وإن كانت جردت الأحاديث من غيرها إلا أنها لم تفرد الصحيح من غيره.
وفي القرن الثالث ظهرت طريقة جديدة، وهي تمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها، والبحث عن الرواة، فكان هذا أزهى عصور الحديث، وفيه ألف البخاري المتوفى سنة 256ﻫ، ومسلم بن الحجاج المتوفى سنة 261ﻫ صحيحيهما، وأبو داود المتوفى سنة 275ﻫ، وابن ماجة المتوفى سنة 275ﻫ، والنسائي المتوفى سنة 303 سننهم، وكتب هؤلاء هي المعروفة بالكتب الستة، ويلحق بها مسند الإمام أحمد المتوفى سنة 241ﻫ.
5- أقسام السنة:
أ. من حيث ماهيتها تنقسم إلى ما يلي:
(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
2. سنة فعلية: و هي كل ما فعله الرسول صلى الله عليه و سلم على سبيل التشريع، مثل كيفية أدائه الصلاة، و أدائه مناسك الحج.
3. سنة تقريرية: هي استحسان النبي صلى الله عليه و سلم أو سكوته عن إنكار قول أو فعل صدر عن الصحابة.
ب. من حيث سندها: وانقسم العلماء في ذلك إلى قسمين:
الأول: يمثله علماء الحديث وجمهور علماء الأصول، ويقسمون السنة إلى: سنة متواترة وسنة آحاد.
الثاني: يمثله علماء الحنفية الذين زادوا السنة المشهورة.
1. السنة المتواترة: التواتر لغة التتابع، وفي الاصطلاح: ما رواه جمع عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، أي ينقله عن رسول الله عليه السلام عدد كبير من الصحابة، ثم ينقله عنهم عدد من التابعين، و هكذا حتى يصل العلماء الذين قاموا بتدوين السنة وتسجيلها في القرنين الثاني والثالث الهجريين.
والسنة المتواترة تكثر في السنة العملية، وتقل في السنة القولية. والسنة المتواترة حجة كاملة، وتفيد العلم اليقيني القطعي في صحتها وثبوتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2. السنة المشهورة: وهي ما رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم واحد أو اثنان، أي عدد لا يبلغ حد التواتر، ثم اشتهرت فنقلها جموع التواتر، ثم اشتهرت فنقلها جموع التواتر في عصر التابعين وتابعي التابعين، مثل ما رواه عمر بن الخطاب عن رسول الله أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
3. سنةالآحاد: وهي ما يرويها عن النبي عدد لم يبلغ حد التواتر، ثم يرويها عنهم مثلهم وهكذا حتى تصل إلى عهد التدوين.
6- السنة تشريع وغير تشريع:
تنقسم السنة باعتبارها تشريعا أو غير تشريع إلى قسمين:
الأول: ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره نبيا ومبلغا عن الله، فهذا يعتبر تشريعا للأمة بلا خلاف.
الثاني: ولا يعتبر تشريعا:
1. ما صدر عن الرسول عليه السلام من الأقوال والأفعال والتقريرات قبل البعثة.
2. ما صدر عنه بمقتضى طبيعته البشرية، كالأكل والشرب والنوم والمشي والتزاور...
3. ما صدر عنه بمقتضى الخبرة البشرية التي استقاها من تجاربه الخاصة في الحياة، كالتجارة والزراعة وقيادة الجيش ووصف الدواء وغير ذلك...
4. ما كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل وصاله في الصوم والتزوج بأكثر من أربع زوجات والتهجد بالليل، واكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة خزيمة وحده في مجال إثبات الواقعة.
7- قطعية السنة و ظنيتها:إن السنة النبوية قد تكون قطعية الثبوت إذا كانت متواترة، وقد تكون ظنية الثبوت والنسبة إلى الرسول إذا كانت مشهورة أو كانت أحادية. ثم هي بعد ذلك - سواء أكانت قطعية الثبوت أم ظنية الثبوت والورود - قد تكون قطعية الدلالة على معناها إذا لم تحتمل معنى غيره، وقد تكون ظنية الدلالة إذا احتملت معنى آخر، فقوله : (أطعموا الجدة السدس) ظني في ثبوته، لأنه حديث أحادي قطعي في دلالته على أن فرض الجدة السدس، وقوله : (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ظني في ثبوته لكونه حديثا أحاديا، وظني في دلالته أيضا لاحتمال توجه النفي إلى صحة الصلاة، كما قال الشافعي، أي لا صلاة صحيحة، أو توجهه إلى كمال الصلاة كما قال الإمام أبو حنيفة أي لا صلاة كاملة.
8- أنواع الأحكام التي جاءت بها السنة
النوع الأول: أحكام موافقة لأحكام القرآن ومؤكدة لها، مثل حديث: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه) فإنه موافق ومؤكد لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ...﴾ [سورة النساء، الآية 29]، ومثله أيضا ما جاء في السنة من النهي عن عقوق الوالدين وشهادة الزور، وقتل النفس بغير حق، ووجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج...
النوع الثاني: أحكام مبينة لما جاء في القرآن:
أ. بتفصيل مجمله: كالسنة العملية في كيفية الصلاة ومناسك الحج.
ب. بتخصيص عامه: كحديث: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة)، الذي خصص عموم قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ﴾ [سورة النساء، الآية 11]، وجعله غير شامل للأنبياء.
ج. بتقييد مطلقه: كحديث سعد بن أبي وقاص في الوصية التي قال فيها الرسول : (الثلث والثلث كثير)، فقد قيد مطلق الوصية في قوله تعالى: ﴿...مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ...﴾ [سورة النساء، الآية 12]، بعدم الزيادة على ثلث التركة.
النوع الثالث: أحكام جديدة لم يذكرها القرآن لأن السنة مستقلة بتشريع الأحكام، ولها كالقرآن في ذلك، وقد ثبت عنه أنه قال: (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه)، ومن هذا النوع تحريم الذهب والحرير على الرجال، وتوريث الجدة...
9- تعريف بمشاهير أئمة الحديث
1. الإمام البخاري: هو أبو عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي البخاري، ولد يوم الجمعة الثالث عشر من شوال سنة 194ﻫ في مدينة بخارى، و طلب العلم صغيرا سنة 205 ﻫ، وقد حفظ تصانيف بعض الأئمة وهو صغير، وسمع من شيوخ بلده، ثم رحل مع أمه وأخيه إلى الحجاز سنة 210ﻫ، وأقام في المدينة المنورة، فألف كتابه "التاريخ الكبير"، وهو مجاور قبر الرسول... رحل إلى شيوخ الحديث وأئمته في مختلف البلاد، وكتب عن أكثر من ألف شيخ، و قد ساعده صبره وذكاؤه وحبه للعلم على بلوغ مرتبة عالية في عصره، حتى أصبح إمام المسلمين في الحديث، و لقبه الأئمة بأمير المؤمنين في الحديث، توفي بقرية "خرتنك" في30 رمضان سنة 256ﻫ.
الجامع الصحيح: ترك الإمام البخاري نحوا من عشرين مؤلفا في الحديث وعلومه ورجاله، وفي غيرها من علوم الإسلام، وأشهرها الجامع الصحيح المشهور بصحيح البخاري، وقد جمع فيه البخاري 9082 حديثا، وهو أول الكتب الستة في الحديث وأفضلها عند الجمهور على المذهب المختار، قال النووي في شرح صحيح مسلم: [اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن الكريم الصحيحان، صحيح البخاري صحيح مسلم]، وقد صح إن مسلما كان ممن يستفيد منه ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري و مسلم بعد القرآن].
بعض شروح البخاري:
- شرح الإمام أبي سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البتي الخطابي المتوفى سنة 308ﻫ، سماه "أعلام السنن".
- شرح الشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد الحلبي المعروف بسبط ابن العجمي، المتوفى سنة 841ﻫ، وسماه "التلقيح لفهم قارئ الصحيح".
- شرح العلامة أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المتوفى سنة 852ﻫ، وسماه "فتح الباري".
- شرح الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، المتوفى سنة 911ﻫ، وسماه "التوشيح على الجامع الصحيح".
2. الإمام مسلم: هو أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ولد سنة 204ﻫ، طلب العلم صغيرا من شيوخ بلده، ثم رحل في طلب العلم إلى بغداد مرارا وإلى الكوفة والبصرة والحجاز والشام ومصر وغيرها، وسمع من أئمة الحديث، وتردد على البخاري كثيرا عندما قدم البخاري نيسابور.
بلغ الإمام مسلم منزلة رفيعة في العلم، وكان بعض الأئمة يقدمه في معرفة الصحيح على مشايخ ذلك العصر، وقد أثنى عليه معاصروه وجمهور أهل العلم من بعده، وترك نحو عشرين مصنفا في الحديث وعلومه.
صحيح مسلم: صنف الإمام مسلم كتابه من ثلاث مائة ألف حديث مسموعة، واستغرق في تهذيبه وتنقيحه خمس عشرة سنة، قال الإمام مسلم: [ما وضعت شيئا في كتابي هذا إلا بحجة، وما أسقطت منه شيئا إلا بحجة].
وقال النووي: [وسلك مسلم في صحيحه طرقا بالغة في الاحتياط والإتقان والورع والمعرفة، وذلك مصرح بكمال ورعه وتمام معرفته وغزارة علومه وشدة تحقيقه].
بعض شروح صحيح مسلم:
- شرح الإمام الحافظ أبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف الخرامي النووي الشافعي، المتوفى سنة 676ﻫ، وسماه "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج".
- شرح الإمام أبي عبد الله محمد بن خليفة الوشنالي الآبي المالكي، المتوفى سنة 827ﻫ.
- شرح الشيخ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، المتوفى سنة 911ﻫ.
الموازنة بين الصحيحين: لقد بذل الشيخان البخاري ومسلم ما بوسعهما في تصنيف الصحيحين تصنيفا علميا دقيقا يقوم على شروط الصحة التي لا يختلف فيها أئمة هذا الشأن، فتلقتهما الأمة بالقبول، وأجمع أهل العلم على أنهما أصح كتابين بعد القرآن الكريم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:[ليس تحت أديم السماء أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن].
و لكل من "الصحيحين" خصائصه ومميزاته، فالإمام البخاري ترجم لأبواب كتابه وكرر بعض الأحاديث في عدة مواضع من كتابه لفوائد حديثية وفقهية رآها، وقطع بعض الأحاديث وجعلها في مواضع عدة لبيان حكم أو زيادة فائدة، ولم يعمد الإمام مسلم إلى ذلك، بل جمع طرق الحديث في مكان واحد بأسانيده المتعددة، وألفاظه المختلفة بما يسهل على الباحث تناوله.
واتفق الجمهور على تقديم "صحيح البخاري" على "صحيح مسلم"، إلا أن بعض علماء المغرب قدم " صحيح " مسلم عليه لحسن الترتيب وجمع طرق الحديث في مكان واحد، وفي هذا يقول بعض العلماء:
تشاجر قوم في البخاري و مسلم لــدي وقالــوا: أي ذين تقــدم
فقلت: لقـد فاق البخاري صحة كما فاق في حـسن الصياغة مسـلم
3. أبو داود السجستاني: هو الإمام الثبت سيد الحفاظ سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي السجستاني، ولد سنة 202ﻫ، و طلب العلم صغيرا ثم رحل إلى الشام والحجاز ومصر والعراق والجزيرة وخراسان، ولقي كثيرا من الأئمة كالإمام أحمد. وتوفي في البصرة سنة 275ﻫ، ودفن إلى جانب قبر سفيان الثوري.
لأبي داود عدة مصنفات أشهرها كتابه "السنن".
4. الإمام الترمذي: هو الحافظ أبو عيسى بن سورة الترمذي، ولد بعد سنة مائتين في قرية (بوج) من قرى ترمذ، وطلب العلم صغيرا، ورحل في طلبه إلى العراق والحجاز وخراسان وغيرها، كان من أئمة الحفاظ الذين اشتهروا بالضبط والإتقان، توفي سنة 279 ﻫ بترمذ.
ترك الترمذي عدة مؤلفات أشهرها كتابه "السنن".
5. الإمام النسائي: هو الحافظ شيخ الإسلام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخرساني النسائي، نسبة إلى بلدة نساء بخراسان، ولد سنة 215ﻫ، ورحل في طلب الحديث وله خمس عشرة سنة، وسمع من كبار علماء عصره في بلده وفي الحجاز والعراق ومصر والشام والجزيرة، ثم استوطن مصرن والراجح في وفاته أنه خرج من مصر في ذي القعدة سنة 302ﻫ، وتوفي بفلسطين بالرملة يوم الاثنين 13 صفر سنة 303ﻫ، ودفن في بيت المقدس. صنف نحو خمسة عشر مؤلفا، جلها في الحديث وعلومه، وأشهرها كتابه "السنن".
6. الإمام ابن ماجة: هو الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجة لقب أبيه، ولد سنة 209 ﻫ، في قزوين، وطلب العلم في مطلع شبابه، ورحل إلى العراق والحجاز ومصر والشام وغيرها، ولقي كثيرا من أئمة عصره.
لابن ماجة مصنفات في التفسير والحديث والتاريخ، ومن أشهر كتبه "السنن". توفي ابن ماجة في 22 رمضان سنة 273ﻫ.
7. الإمام مالك: هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري المدني، أحد أعلام الإسلام وإمام دار الهجرة، ولد سنة 93ﻫ في المدينة المنورة، ونشأ فيها، وطلب العلم على أكابر علماء التابعين كالإمام ابن شهاب الزهري.
ألف كتابه "الموطأ"، وقد توخى فيه القوي من أحاديث أهل الحجاز و أخرج فيه إلى جانب الحديث النبوي آثار بعض الصحابة والتابعين. توفي سنة 179ﻫ بالمدينة.
8. الإمام أحمد: هو أبو عبد الله بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي، خرجت أمه من "مرو" وهي حامل به فولدته في بغداد سنة 164ﻫ، وفي بغداد نشأ وطلب العلم، ورحل إلى البصرة والكوفة ومكة والمدينة واليمن والشام وغيرها، للإمام أحمد عدة مؤلفات أشهرها كتابه "المسند". توفي ببغداد سنة 241ﻫ.
ثالثا: الإجماع
1- تعريفه:
أ. لغة: له معنيان:
أولهما: العزم على الشيء والتصميم عليه، فيقال: أجمع فلان على السفر إذا عزم عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿...فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ...﴾ [سورة يونس، الآية 71]، و قوله: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ...﴾ [سورة يوسف، الآية 15].
ثانيهما: الاتفاق على أي شيء، فيقال: أجمع القوم على كذا، أي اتفقوا عليه، ومنه قول الرسول : (لا تجتمع أمتي على ضلالة) أي لا يتفقون عليها، وهذا المعنى هو الأنسب للمعنى الاصطلاحي.
ب. اصطلاحا: في رأي جمهور العلماء هو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على حكم من الأحكام الشرعية العملية.
2- حجيته:
أ. من القرآن: قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [سورة النساء، الآية 115].
و أول من استدل بهذه الآية على حجية الإجماع هو الإمام الشافعي، كما ذكرت أمهات كتب الأصول و غيرها.
وجه الاستدلال بالآية: إن الله جمع بين مشاقة الرسول و اتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، حيث قال: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾، و هذا يستلزم أن يكون إتباع غير سبيل المؤمنين محرما، وإذا حرم إتباع غير سبيل المؤمنين وجب تجنبه، ولا يمكن تجنبه إلا بإتباع سبيلهم لأنه لا واسطة بينهما، ولزم من وجوب إتباع سبيلهم كون الإجماع حجة.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...﴾ [سورة النساء، الآية 59].
وجه الدلالة من الآية:شرط الله تبارك وتعالى التنازع لوجوب الرد إلى الكتاب والسنة فدل ذلك على أنهم إذا لم يتنازعوا لم يجب عليهم الرد، و أن الاتفاق منهم حينئذ كاف عن الرد إلى الكتاب والسنة، ولا معنى لكون الإجماع حجة إلا هذا.
ب. من السنة النبوية: روي عن رسول الله الكثير من الأحاديث التي تواتر معناها، وإن لم يتواتر لفظها لورودها بألفاظ مختلفة:
1. (لا تجتمع أمتي على ضلالة).
2. (لا تجتمع أمتي على خطأ).
3. (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن).
4. (يد الله مع الجماعة).
5. (من فارق الجماعة و مات فميتته جاهلية).
6. (من خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه).
وجه الاستدلال بهذه الأحاديث: هذه الأحاديث ونحوها وإن لم يتواتر كل واحد منها لفظا إلا أن القدر المشترك بينها و هو عصمة الأمة متواتر فيها لوجوده في كل منها، وإذا ثبت عصمة الأمة تواترا كان الإجماع حجة.
أن هذه الأحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة و التابعين يتمسكون بها في إثبات الإجماع.
3- أنواعه:
أ. الإجماع الصريح: و هو الإجماع الذي يبدي فيه كل واحد من المجتهدين برأيه
صراحة في مسألة فقهية، و هو الإجماع المعتد عند جمهور العلماء.
ب. الإجماع السكوتي: هو الذي يعلن فيه أحد المجتهدين عن رأيه في مسألة فقهية، ويسكت باقي المجتهدين دون إنكار عليه
* موقف العلماء من الإجماع السكوتي:
ذهب الشافعي و بعض الحنفية إلى عدم الاحتجاج به، و دليلهم على ذلك ما يأتي:
1. إنه لا ينسب لساكت قول كما يقول الشافعي.
2. إن السكوت تحيط به احتمالات نفسية باطنة لا يمكن الجزم معها بأن باقي المجتهدين سكتوا موافقة ورضى، وذلك بأن السكوت قد يكون مهابة للقائل أو لعدم الانتهاء إلى رأي في موضوع الفتوى، أو لسبب آخر لا نعلمه.
وذهب الإمام أحمد وأكثر الحنفية و بعض أصحاب الشافعي إلا أنه يحتج بالإجماع السكوتي، ودليلهم على ذلك ما يأتي:
1. إن العادة قد جرت بتصدر الأكبر للفتوى و سكوت غيرهم عند موافقة رأيهم لرأي كبارهم، فالسكوت محمول على الرضا والموافقة بمقتضى العرف والعادة.
2. إن عمل المجتهدين هو بيان الحكم الشرعي، وسكوتهم عن بيانه في موضع البيان ووقته، حيث أعلن أحدهم رأيه يعد بيانا وموافقة على هذا الرأي، لأن السكوت في موضع البيان بيان.
3. إن السكوت لا يحمل على الرضا إلا إذا كان مجردا من الدلالة على الإنكار والمخالفة، وإلا إذا مضت مدة كافية للتروية تكوين الرأي، و القول بأن السكوت قد يكون مهابة للقائل وخوفا منه أو نحو ذلك لا يليق في جانب المجتهدين الذين بلغوا أعلى المراتب الفقهية والدينية، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
* أمثلة عن الإجماع:الإجماع على تحريم الزواج بالجدة استنادا إلى قول تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [سورة النساء، الآية 22] أي أصولكم، إذن فالجدة أم.
إجماع الصحابة على توريث الجدة السدس، استنادا إلى ما رواه المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم.
إجماع الصحابة على جمع القرآن في مصحف واحد.
4- مرتبته:
يأتي الإجماع في المرتبة الثالثة بعد القرآن والسنة، قال ابن مسعود: [إذا سئل أحدكم فلينظر في كتاب الله، فإن لم يجد ففي سنة رسول الله، فإن لم يجد فلينظر في ما اجتمع عليه المسلمون وإلا فليجتهد].
رابعا: القياس
1- تعريفه:
لغة: التقدير، مثل: قست الثوب بالذراع، أي عرفت مقداره، يتعدى بالباء وبـ على، فيقال: قاسه على الشيء، و قاسه بالشيء، و يكثر في الأصول تعديه ب على.
اصطلاحا: هو مساواة أمر لأمر آخر في الحكم الثابت له لاشتراكهما في علة الحكم.
2- أركانه: يرتكز القياس على أربعة أركان هي:
الأصل: و هو المقيس عليه أو المشبه به.
الفرع: و هو المقيس أو المشبه ( الواقعة أو الحادثة التي نريد معرفة حكمها. )
حكم الأصل: و هو الحكم الشرعي الذي يراد بيان مساواة الفرع للأصل فيه.
العلة: التي انبنى عليها تشريع الحكم في الأصل، و يتساوى معه الفرع فيها، و تسمى جامعا.
3- حجيته:
أ. قال تعالى: ﴿...فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [سورة الحشر، الآية 2]، فالاعتبار هو القياس، و الآية أمرت بالاعتبار، و الأمر يفيد الوجوب، فيكون القياس واجبا على المجتهد.
قال الشوكاني: [الاعتبار مشتق من العبور، و القياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع، فكان داخلا تحت الأمر].
ب. إن القرآن يستعمل القياس في الإقناع و إلزام الحجة، فقد رد القرآن على منكري البعث الذين قالوا: ﴿...مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [سورة يس، الآية 78]، بقوله تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ...﴾ [سورة يس، الآية 79]، فقاس سبحانه إعادة المخلوقات وبعثها بعد فنائها على النشأة الأولى وبدء الخلقة، وبين أن من قدر على بدء الخلق قادر على إعادته، بل هو أهون عليه.
(إن أبي أدركته فريضة الحج، أفأحج عنه؟ فقال لها: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء). فكان هذا قياسا لدين الله على دين العباد.
د. (روي أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث معاذا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن قاضيين، كل واحد منهما في ناحية، و أنهما لما سئلا قالا: إذا لم نجد في القرآن ولا في السنة نقيس الأمر بالأمر، فما كان أقرب إلى الحق عملنا به، فقال صلى الله عليه و سلم: أصبتما).
4- شروط صحة القياس:
أ. شروط حكم الأصل:
1. أن يكون حكم الأصل ثابتا بالكتاب كحرمة الخمر الثابتة بالقرآن، أو ثابتا بالسنة، أو بالإجماع (في رأي كثير من العلماء).
2. أن يكون الحكم معقول المعنى، يعني أن يستطيع العقل إدراك علته كتحريم الخمر، فإن الخمر تدرك علته و هي الإسكار.
3. أن لا يكون حكم الأصل مختصا به، لأن الدليل الدال على هذا الاختصاص يمنع تعدي هذا الحكم إلى الفرع بطريق القياس.
ب. شروط الفرع:
1. ألا يكون قد ورد نص أو إجماع بحكم في الفرع يخالف القياس.
2. أن يتساوى الفرع مع الأصل في علة الحكم دون فارق جوهري بينهما، حتى لا يكون القياس قياسا مع الفارق.
ج. شروط العلة:
تتضح شروط العلة من خلال تعريفها، فالعلة هي الوصف الظاهر المنضبط المتعدي المناسب للحكم، فيشترط في الوصف الذي يعلل به الحكم ما يأتي:
1. أن يكون وصفا ظاهرا يمكن التحقق من وجوده و عدمه كالإسكار.
2. أن يكون وصفا منضبطا، له حدود معينة.
3. أن يكون وصفا متعديا غير قاصر، يعني يمكن وجوده في غير الأمر الأصلي المقيس عليه.
4. أن يكون وصفا مناسبا ملائما لتشريع الحكم، أي أن ربط الحكم به وجودا و عدما من شأنه أن يحقق مصلحة للناس أو أن يدفع عنهم مفسدة.
ب- المصادر المختلف فيها
أولا: المصالح المرسلة
1- أنواع المصالح التي تقوم عليها الشريعة:
أ. المصالح الضرورية: (وهي التي تكون الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها، بحيث لا يستقيم النظام باختلالها، بحيث إذا انخرمت تؤول حالة الأمة إلى فساد وتلاش).
وتتمثل هذه المصالح فيما يلي:
1. الدين.
2. النفس.
3. النسل
4. العقل
5. المال
ولقد شرع للمحافظة على الدين وجوب الجهاد في سبيل الله للذود عن الدين، كما شرع للمحافظة على النفس وجوب تناول القدر الضروري لبقائها من طعام وشراب، ووجوب ارتداء القدر اللازم لرفع الضرر عنها، ومما شرع للمحافظة على النسل تحريم الزنا والقذف وإقامة الحد على مرتكبي هاتين الفاحشتين، ومما شرع للمحافظة على العقل تحريم الخمر وسائر المسكرات، لأنها مدعاة لحدوث خلل في العقل، (فدخول الخلل على عقل الفرد مفض إلى فساد جزئي، ودخوله على عقول الجماعات وعموم الأمة أعظم، ولذلك يجب منع الشخص من السكر، ومنع الأمة من تفشي السكر بين أفرادها). ومما شرع للمحافظة على المال تحريم السرقة، وتحريم أكل المال بالباطل.
ب. المصالح الحاجية: ويراد بها الأمور التي يحتاج الناس إليها لرفع الحرج عنهم، وبدونها لا يختل نظام حياتهم ولكنهم يحسون بالضيق والحرج. ومن أحكام رفع الحرج إباحة الفطر في رمضان للمسافر والمريض، وقصر الصلاة الرباعية في السفر، والتيمم عند فقد الماء أو عدم القدرة على استعماله.
ج. المصالح التحسينية: وهي ما يتعلق بمكارم الأخلاق، ومحاسن العادات كالطهارة، ولبس الجديد من اللباس، وكل ما يرتقي بحياة الناس إلى مستوى أفضل.
2- أقسام المصالح من حيث اعتبار الشريعة أو عدم اعتبارها لها:
أ. المصالح المعتبرة: وهي المصالح التي وردت نصوص لتحقيقها، فهي معتبرة بذلك في نظر الشريعة كالمصالح المذكورة آنفا.
ب. المصالح الملغاة: وهي المصالح التي وردت نصوص دالة على إلغائها مثل: دعوى مساواة الابن والبنت في الميراث، فتلك مصلحة ملغاة بقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ...﴾ [سورة النساء، الآية 10].
ج. المصلحة المرسلة: وهي المصلحة المطلقة التي لم يرد نص يعتبرها أو يلغيها. كما تعرف بأنها: (المعاني التي يحصل من ربط الحكم بها وبنائه عليها جلب منفعة أو رفع مفسدة، ولم يقم دليل معين يدل على اعتبارها أو إلغائها).
3- أدلة المعتدّين بالمصلحة المرسلة:
من الأدلة التي استدل بها المعتدّون بالمصلحة المرسلة ما يلي:
1. أن المعروف أن مصالح الناس في تجدد مستمر، وأن الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق مصالح العباد، فإذا ما استجد أمر في حياة الناس، ولا يوجد نص يتناول ذلك، فإن القول باعتبار المصلحة ينسجم مع بقاء الشريعة وخلودها، (فأينما وجدت المصلحة فثم شرع الله).
2. حصول إجماع الصحابة على الاحتجاج بالمصلحة المرسلة، ويتجلى ذلك في تشريعهم لكثير من الأحكام تحقيقا لمصالح مطلقة، ومن ذلك ما يلي:
أ. تم جمع القرآن الكريم في مصحف واحد في عهد أبي بكر الصديق.
ب. لقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدا بعده، ولما رأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن مصلحة الأمة تقتضي استخلاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه صنع ذلك تحقيقا لتلك المصلحة،
ج. وضع عمر بن الخطاب للخراج وتدوينه تحقيقا للمصلحة.
د. حكم عثمان بن عفان رضي الله عنه بتوريث المرأة التي طلقها زوجها في مرض موته بغية حرمانها من الميراث، وذلك معاملة بعكس مقصوده.
4. أهمية العمل بالمصلحة المرسلة: إن العمل بالمصلحة المرسلة يخدم مصالح الأمة، إذ أن الراسخين في العلم وولاة الأمور في إمكانهم تشريع ما يحقق مصالح الناس في إطار معالم الشريعة وروحها، ولا شك أن استجابة الشريعة لمصالح الناس المتجددة مظهر من مظاهر كمال الشريعة وصلاحيتها كل زمان ومكان.
5. شروط العمل بالمصلحة المرسلة: تشير كثير من المراجع إلى شروط لازمة للعمل بالمصلحة المرسلة تتمثل فيما يلي:
أولا: أن تكون المصلحة كلية، بمعنى أن تكون شاملة للكثير من الناس فإذا كانت خاصة فلا يعتمد عليها تشريع في الحكم.
ثانيا: أن تكون المصلحة حقيقية، بمعنى أن يكون تشريع حكم بناءا على تلك المصلحة من شأنه جلب النفع أو دفع الضرر.
ثالثا: أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشريعة، فإذا لم تكن كذلك لا يعتمد عليها في تشريع الأحكام.
رابعا: ألا تكون مصلحة ملغاة، فإذا ورد نص يلغي مصلحة معينة فلا مجال لتشريع حكم بناءً عليه.
6. مجال العمل بالمصلحة المرسلة:إن إدراك المصلحة يتحقق في المعاملات دون العبادات، لذلك فإن مجال العمل بالمصلحة المرسلة هو مجال المعاملات.
أمثلة لبعض الأحكام الصادرة بناءا على مصلحة:
أ. فرض الضرائب عند عدم وجود ما يكفي من المال لتحقيق مصالح الناس العامة.
ب. توثيق عقد الزواج تحديدا للمسؤوليات وحفظا للحقوق.
ج. النص على أن نقل الملكية من البائع إلى المشتري في عقد البيع يتم بعد تسجيله.
د. وضع قواعد المرور والإلزام بتطبيقها.
7. المصلحة المفسدة من حيث تعلق الخطاب بها شرعا:
يقول الإمام الشاطبي: ( فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد فهي المقصودة شرعا، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل... وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد، فرفعها هو المقصود شرعا ولأجله وقع النهي).
ثانيا: العرف
1- تعريفه: هو ما تعارف الناس واستقامت عليه أمورهم من قول أو فعل.
والعرف والعادة أمران مختلفان، إذ العادة بمعنى التكرار، وكما يكون تعود الشيء من فرد يكون من جماعة، والأولى تسمى عادة فردية والثانية عادة جماعية، أما العرف فلا يصدق إلا على الجماعية، فما يعتاده بعض الناس لا يكون عرفا: لأنه لا بد في تحقق العرف من اعتياد الأغلب أو الكل.
2- حجيته: ذكر العلماء جملة من الأدلة للاستدلال بها على حجية العرف أذكر منها:
أ. قوله تعالى: ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ﴾ [سورة الأعراف، الآية 199].
قال القرافي: [فكل ما شهدت به العادة قضي به لظاهر الآية].
ج. ما ثبت أن الرسول قال لهند زوج أبي سفيان حينما اشتكت إليه بخل زوجها عليها بالنفقة، قال لها: (خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف). قال القرطبي: [في هذا الحديث اعتبار العرف في الشرعيات].
د. إن تعارف الناس على قول أو فعلما لدليل على أن في ذلك تحقيقا لمصلحة أو رفعا لحرج، وتحقيق المصالح ورفع الحرج مما جاءت الشريعة لتقريره.
وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى الاحتجاج بالعرف، ومع أنه قد اشتهر الأخذ به عند الحنفية والمالكية، فقد قيل أن الشافعي قد بنى أحكام مذهبه الجديد على عرف أهل مصر، وقد كان في مذهبه القديم ما بناه على عرف أهل العراق. يقول القرافي: [أما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك].
3- أقسامه:
أ. تقسيم العرف إلى قولي وعملي:
1. العرف القولي: مثل تعارف الناس على إطلاق لفظ "الولد" على الذكر دون الأنثى مع أن لفظ "الولد" ينطبق على الذكر والأنثى معا، يقول تعالى: ﴿يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ...﴾ [سورة النساء، الآية 11].
وتعارفهم على إطلاق لفظ "الدابة" على ذوات الأربع، مع أن كل ما يدب على الأرض يسمى "دابة"، قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا...﴾ [سورة هود، الآية 6].
كما تعارف سكان بعض البلاد المصرية على إطلاق "الدابة" على الحمار فقط، في حين يطلق سكان بعض البلاد العراقية والسودانية لفظ "الدابة" على الفرس فقط.
كما تعارف الناس أيضا على إطلاق لفظ " اللحم" على ما عدا السمك من اللحوم، مع أن القرآن سماه "لحما" في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا...﴾ [سورة النحل، الآية 14].
2. العرف العملي: مثل تعارف الناس على البيع بالتعاطي في بعض السلع دون إيجاب و قبول، وتقسيم المهر إلى معجل ومؤجل، ودخول الحمامات والأندية والمقاهي دون تحديد لمدة المكث فيها.
ب. تقسيم العرف إلى عام وعام:
1. العرف العام: هو ما تعارف عليه الناس جميعا في عصر من العصور.
2. العرف الخاص: هو ما تعارف عليه الناس في طائفة معينة أو بلد معين، وهذا ما نجده في الواقع، حيث تختلف الأعراف من طائفة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر.
4- شروط العمل بالعرف:
أولا: ألا يناقض العرف نصا قطعيا، فلا عبرة لما تعارف عليه الناس من أكل الربا، لأنه عرف فاسد، لمصادمته قوله تعالى: ﴿...وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...﴾ [سورة البقرة، الآية 275].
ثانيا: أن يكون العرف مطردا، أي في جميع الحوادث أو أغلبها، فلا عبرة بالعرف غير الغالب.
ثالثا: أن يكون العرف المراد تحكيمه في التصرفات موجودا عند إنشائها وذلك بأن يقارن الفعل دون تأخير عنه، فلو كان العرف طارئا فلا عبرة به.
رابعا: ألا يعارض العرف تصريح بخلافه، فمثلا إذا كان العرف الجاري تعجيل نصف المهر وتأخير النصف لكن اشترطت المرأة تعجيل كل المهر وقبل الزوج بذلك، فإن العرف لا يحكم في هذه الحالة لأنه لا يلجأ إليه إلا إذا لم يوجد ما يفيد مقصود العاقدين صراحة، فحيث علم المقصود صراحة من الشرط لا يصار إلى العرف.
5. اختلاف الأحكام باختلاف العرف:وردت أحكام كثيرة مبنية على العرف، وكان اختلاف الأعراف سببا لاختلاف تلك الأحكام، وهذا الاختلاف يقال عنه: أنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان، ومن أمثلة هذا الاختلاف ما يأتي:
1. أن الإمام أبا حنيفة كان يرى الاكتفاء في الشهود بالعدالة الظاهرة فيما عدا الحدود والقصاص، ولم يشترط التزكية لقوله : (المسلمون عدول بعضهم على بعض)، وكان هذا الحكم مناسبا لزمان أبي حنيفة لغلبة الصلاح فيه، ولما تغير حال الناس وفشا فيهم الكذب رأى الصاحبان أن الأخذ بظاهر العدالة كما يقول أبو حنيفة يؤدي إلى مفسدة، وهي ضياع كثير من الحقوق، فدعا فساد الزمان وتغيره أن يقولا بتزكية جميع الشهود دفعا لهذه المفسدة.
2. أن أبا حنيفة قال:[لا يتحقق الإكراه من غير السلطان]، وقال الصاحبان: [إن الإكراه يتحقق من غير السلطان]، فهذا القول من أبي حنيفة مبني على ما شاهده في عصره من أن القدرة والمنفعة لم تكن إلا لسلطان، وهذا الحال تغير في زمن الصاحبين، وصار لكل ظالم القدرة على إيقاع ما هدد به من الأذى والمكروه، فقالا: [إن الإكراه يتحقق أيضا من غير السلطان].
3. اختلف أبو حنيفة وصاحباه فيما لو غصب شخص ثوبا وصبغه بلون أسود، فقال أبو حنيفة: إنه نقصان في قيمته، وقال الصاحبان: إنه زيادة فيها كما لو صبغه بلون أصفر أو أحمر. ومرجع هذا الاختلاف إلى العرف، فإن بني أمية في زمن أبي حنيفة كانوا يمتنعون عن لبس السواد، فكان مذموما، وفي زمن الصاحبين كان بنو العباس يلبسون السواد، فكان ممدوحا، فأجاب كل منهم على ما شاهد من عادة أهل عصره.
4. روي عن الإمام مالك أنه إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول فالقول قول الزوج، مع أن الظاهر أن القول يكون للزوجة لأن الأصل عدم القبض، فداء بعض فقهاء المالكية فقالوا: هذه كانت عادتهم بالمدينة أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض صداقها، واليوم عادتهم على خلاف ذلك، فالقول قول الزوجة مع يمينها جريا على عادات الناس.
ثالثا: قول الصحابي
1- التعريف بالصحابي: الصحابي عند جمهور علماء الأصول هو من لقي النبي صلى الله عليه و سلم و آمن به و لازمه مدة كافية لإطلاق وصف الصحبة عرفا.
2- حجية قول الصحابي
أ. إشارة القرآن عن فضل الصحابة، و إعلان الرضا عمن تبعهم، والأخذ بأقوالهم و سنتهم هو إتباعهم. ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [سورة التوبة، الآية 100].
(فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ).
(أنا أمان لأصحابي وأصحابي أمان لأمتي).
(خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم).
ج. قال ابن قيم عن الفتوى التي يفتي بها الصحابة أنها ( لا تخرج عن ستة أوجه:
الأول: أن يكون سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن يكون سمعها ممن سمعها منه.
الثالث: أن يكون فهمها من آية من كتاب الله فهما خفي علينا.
الرابع: أن يكون قد اتفق عليها ملأهم، ولم ينقل إلينا إلا قول المفتي بها وحده.
الخامس: أن يكون لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنا، أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب، أو لمجموع أمور فهموها على طول الزمان من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهدة أفعاله وأحواله وسيرته وسماع كلامه، والعلم بمقاصده، وشهود تنزيل الوحي، ومشاهدة تأويله بالفعل فيكون فهم ما لا نفهمه نحن.
وعلى هذه التقادير الخمسة تكون فتواه حجة يجب إتباعها.
السادس: أن يكون فهم ما لم يرده الرسول صلى الله عليه وسلم واخطأ في فهمه، والمراد غير ما فهمه.
وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجة، ومعلوم قطعا أن وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معين، هذا ما لا يشك فيه عاقل، وذلك يفيد ظنا غالبا قويا على أن الصواب في قوله دون ما خالفه من أقوال من بعده وليس المطلوب إلا الظن الغالب، والعمل به متعين ).
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن قول الصحابي ليس حجة اعتمادا على أدلة منها:
1. الصحابة غير معصومين من الخطأ، ومن لا عصمة له لا حجة لرأيه.
2. الصحابة سمحوا بمخالفتهم في الرأي.
3. رأي الصحابي ليس حتما أكثر امتيازا من غيره.
ويرى الأستاذ زكريا البري أن أراء الصحابة الاجتهادية ينبغي ألا تكون حجة ملزمة كالقرآن والسنة، وإنما يستأنس بها في استنباط الأحكام من النصوص.
رابعا: الاستصحاب
1 تعريفه:
أ- لغة: يقصد به استمرار الصحبة.
ب- اصطلاحا: معناه استبقاء الأمر الثابت في الزمن الماضي إلى أن يقوم الدليل على تغييره.
2- حجيته: من الأدلة التي احتج بها القائلون بحجية الاستصحاب ما يأتي:
أولا: أن استقراء الأحكام الشرعية يظهر أن الشارع يحكم ببقائها حتى يحدث ما يغيرها، فعصير العنب حلال إلى أن يصير خمرا، والعشرة الزوجية حلال بين الزوجين إلى أن يزول عقد الزواج، والمفقود يكون حيا بالاستصحاب إلى أن يقوم الدليل على وفاته، وله كل أحكام الأحياء.
ثانيا: إن مما فطر الله الناس عليه، وجرى به عرفهم في معاملاتهم وسائر عقودهم وتصرفاتهم أنهم إذا تحققوا من وجود أمر في الماضي غلب على ظنهم بقاؤه واستمراره ما دام لم يثبت ما ينافيه، كما أنهم إذا تحققوا من عدم وجود أمر غلب على ظنهم استمرار عدمه حتى يثبت لهم وجوده.
3- أنواعه: يقسم الاستصحاب إلى الأنواع الآتية:
الأول: استصحاب الحكم الأصلي للأشياء وهو الإباحة: يقرر جمهور الفقهاء أن الأصل في الأشياء الإباحة استنادا إلى الأدلة التالية:
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا...﴾ [سورة البقرة، الآية 29]، وقوله: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ...﴾ [سورة الجاثية، الآية 13]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ...﴾ [سورة الأعراف، الآية 32].
فإذا كان الله قد سخر لنا ما في السموات والأرض، فإن ذلك دليل الإذن والإباحة، ونفي الحرمة في الآية الأخيرة يعني إثبات الإباحة.
كما استدلوا بقول الرسول : (إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء فحرم من أجل مسألته)، وبقوله: (الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه).
الثاني: استصحاب العدم الأصلي أو البراءة الأصلية، كالحكم ببراءة الذمة من التكاليف الشرعية والحقوق حتى يوجد الدليل الدال على ما يشغلها.
وعن هذا النوع قال ابن قيم الجوزية: [فقد تنازع الناس فيه، فقالت طائفة من الفقهاء والأصوليين أنه يصلح للدفع لا للإبقاء كما قاله بعض الحنفية، ومعنى ذلك أنه يصلح لأن يدفع به من ادعى تغيير الحال لبقاء الأمر على ما كان، فإن بقاءه على ما كان إنما مستند إلى موجب الحكم لا إلى عدم المغير له، فإذا لم نجد دليلا نافيا ولا مثبتا أمسكنا لا نثبت الحكم ولا ننفيه، بل ندفع بالاستصحاب دعوى من أثبته، فيكون حال المتمسك بالاستصحاب كحال المعترض مع المستدل، فهو يمنعه الدلالة حتى يثبته لا إن يقيم دليلا على نفي ما ادعاه، وهذا غير حال المعارض: فالمعارض لون والمعترض لون، فالمعترض يمنع دلالة الدليل، والمعارض يسلم دلالته ويقيم دليلا على نقيضه. وذهب الأكثرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم على أنه يصلح لإبقاء الأمر على ما كان عليه، قالوا: لأنه إذا غلب على الظن انتفاء الناقل غلب على الظن بقاء المر على ما كان عليه].
الثالث: استصحاب ما دل العقل أو الشرع على ثبوته، فإذا استدان شخص من آخر مبلغا من المال فقد ثبتت مديونيته، وتبقى ذمته مشغولة بهذا الدين حتى يقوم الدليل على براءتها بسداد الدين أو الإبراء. وإذا ثبت الملك لشخص بسبب من أسباب الملك: كالبيع أو الإرث مهما طال الزمان اعتبر قائما حتى يقوم الدليل انتفائه بسبب طارئ، وإذا تزوج شخص امرأة وثبت ذلك فإنه يحكم ببقاء الزوجية ما لم يقم عنده دليل على الفرقة.
* قواعد شرعية مبنية على الاستصحاب:من القواعد الشرعية المبنية على الاستصحاب ما يلي:
1. الأصل في الأشياء الإباحة.
2.. الأصل في الإنسان البراءة.
3. اليقين لا يزول بالشك.
4. الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره.
خامسا: الاستحسان
1- تعريفه: عرفه الفقيه الحنفي أبو الحسن الكرخي بقوله: [هو أن يعدل المجتهد عن أن يحكم في المسالة بمثل ما حكم في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول].
2.أنواعه:
النوع الأول: ترجيح قياس خفي على قياس ظاهر جلي لقوة تأثير القياس الخفي، ومثاله: ما قرره الفقهاء أن الشخص إذا وقف أرضا زراعية على جهة بر، فإن حقوقها من الشرب والمسيل والمرور تدخل في الوقف، ولو لم ينص في وقفه على ذلك، مع أن مقتضى القياس عدم دخولها إلا بالنص عليها كما في بيع الأرض، حيث لا تدخل في المبيع إلا بالنص عليها، ووجه الاستحسان أن الوقف لا يفيد ملك الموقوف عليه للمال الموقوف، وإنما يثبت له ملك المنفعة فقط، والأرض لا يمكن الانتفاع بها بدون حقوق الارتفاق، كما في عقد الإجارة، فهنا قيا سان: قياس ظاهر وهو إلحاق الوقف بالبيع من جهة أن كلا منهما يفيد إخراج المال من مالكه، وقياس خفي وهو إلحاقه بالإجارة من ناحية أن كلا منهما مقصود الانتفاع، فرجحوا الثاني.
النوع الثاني: استثناء مسألة جزئية من قاعدة عامة لوجه اقتضى هذا الاستثناء.
ومثاله أن المحجور عليه للسفه يصح وقفه على نفسه مدة حياته استحسانا استثناء من القاعدة العامة وهي عدم صحة تبرعاته، ووجه الاستحسان أن وقفه على نفسه يحفظ العقار الموقوف من الضياع للزوم الوقف، وعدم قبوله للبيع والشراء، فيتحقق الغرض الذي حجر عليه من أجله، وهو المحافظة على أمواله فهو استحسان يستند إلى المصلحة.
3- موقف العلماء من الاستحسان: ذهب الشافعي والظاهرية والشيعة إلى إنكار الاستحسان، بينما ذهب الجمهور إلى الاحتجاج به.
أدلة المنكرين:
1. قوله سبحانه وتعالى: ﴿...فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...﴾ [سورة النساء، الآية 59].
فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية قد ردنا إلى حكمه وحكم رسوله عليه السلام كما جاء في الكتاب والسنة عند حصول النزاع أو الاختلاف، ولم يقل فردوه إلى ما تستحسنونه بعقولكم.
2. ما روي عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: (قلت: يا رسول الله الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم تمض فيه منك سنة؟ قال: أجمعوا له العالمين، أو قال: العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينهم ولا تقضوا فيه برأي واحد).
أدلة المؤيدين:
1. قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ [سورة الزمر، الآية 18].
فالله سبحانه يمدح الذين يتبعون أحسن ما يستمعون من القول، والمدح لا يكون إلا عند فعل الأولى والمطلوب، ومن ثم لم يكن الاستحسان محظورا، ولا القول به ممنوعا.
2. قوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ...﴾ [سورة الزمر، الآية 23].
3. قوله تعالى: ﴿...فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا...﴾ [سورة الأعراف، الآية 145].
سادسا: شرائع من قبلنا
ليس المقصود بشرع من قبلنا ما أقره شرعنا، فليس في هذا خلاف، وليس المقصود بشرع من قبلنا ما ألغاه شرعنا، فليس في هذا خلاف كذلك، إنما المقصود بشرع من قبلنا ما لم يقره ولم يلغه شرعنا أيكون شرعا لنا؟
ذهب جمهور الحنفية والمالكية والشافعية إلى العمل به، في حين ذهب بعض العلماء - ومنهم المعتزلة والإمام أحمد في رواية عنه - إلى أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا.
أدلة المؤيدين:
1. وحدة الشرائع السابقة، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ...﴾ [سورة الشورى، الآية 13]، فهذه الآية يفهم منها وحدة الشرائع، لذلك ينبغي العمل بمقتضى أحكام الشرائع السابقة، إلا إذا ورد الدليل على نسخها أو كونها خاصة بأمة من الأمم.
2. أن الله تعالى أمر رسوله عليه السلام بإتباع الأنبياء والرسل السابقين، والإقتداء بهم، كما في قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ...﴾ [سورة الأنعام، الآية 90]، وكما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ [سورة النحل، الآية 123].
3. قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ...﴾ [سورة المائدة، الآية 44]، وقوله: ﴿...وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [سورة الأعراف، الآية 154].
وفي هاتين الآيتين دلالة على أن التوراة فيها هدى ونور ورحمة، لذا فكل حكم ورد فيها ولم يصرح بنسخه يجب العمل به.
4. صح عن الرسول أنه صام يوم عاشوراء، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: يوم صالح، نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، فقال صلى الله عليه و سلم: أنا أحق الناس بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه).
أدلة المخالفين:
1. إن الشرائع السابقة كانت مؤقتة بزمن محدد، و بأمم معينة و الشريعة الإسلامية نسخت كل من عداها من الشرائع لأنها جاءت عامة و شاملة. قال الرسول : (كان النبي يبعث إلى قومه خاصة ويبعث إلى الناس عامة).
2. إن النبي لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: (كيف تقضي إذا عرض عليك قضاء ؟ قال بكتاب الله تعالى ،قال : فإن لم تجد ؟ فبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال فإن لم تجد ؟ قال: اجتهد رأيي ولا ألو.فقال له الرسول صلى الله عليه و سلم: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله)، فلو كان العمل بالشرائع السابقة واجبا لذكره معاذ أو ذكره له الرسول عليه السلام، ولما جاز الاجتهاد بالرأي إلا عند عدم وجود الحكم فيها.
والراجح هو ما ذهب أليه جمهور الفقهاء، فقوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ...﴾ [سورة المائدة، الآية 45]. استدل به الأحناف على قتل المسلم بالذمي والرجل بالمرأة أخذا من عموم قوله تعالى: ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ الذي يروي به ما كان مكتوبا في التوراة، كما استدل بعض العلماء على جواز عقد الجعالة أخذا من قوله تعالى: ﴿...وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾ [سورة يوسف، الآية 72]، فقد جعل لمن يأتي بصواع الملك جعلا مقداره حمل بعير، وقد رواه القرآن عن شريعة يوسف عليه السلام.
الاجتــهــاد
أولا: تعريفه
أ- لغة: بذل الجهد في تحقيق أمر معين، سواء كان ماديًا أو معنويًا.
أ- لغة: بذل الجهد في تحقيق أمر معين، سواء كان ماديًا أو معنويًا.
ب- اصطلاحا: استفراغ الجهد في إدراك الأحكام الشرعية واستنباطها من أدلتها.وقد ثبتت مشروعيته نقلا وعقلا، ومن أدلة ذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [ سورة الشورى، الآية 38]، إذ أن الشورى تقتضي بذل الوسع بحثا عن الصواب في أمر من الأمور.وقال النبي : (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) [رواه الشيخان وأحمد].ولما بعث النبي معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيا، قال له: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟) قال: أقضي بكتاب الله تعالى، قال: فإن لم تجد ؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال معاذ: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدري وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) [أخرجه أحمد وأبو داوود والترمذي].
ثانيا: شروطه
تتحقق أهلية الاجتهاد بشروط هي:1. العلم بالقرآن الكريم: خاصة آيات الأحكام الواردة في كتاب الله دون اشتراط حفظه كاملا...2. معرفة أسباب النزول: لأنه يساعد على فهم النصوص.3. الإحاطة بالسنة النبوية: خاصة الأحاديث المتعلقة بالأحكام الشرعية.4. معرفة أسباب ورود الحديث لإدراك مقصوده.5. العلم بالناسخ و المنسوخ في القرآن والسنة: لمعرفة النصوص التي يستدل بها إثباتا للأحكام الشرعية.6. العلم باللغة العربية: و الإحاطة بقواعدها و دلالاتها على معانيها ليتمكن المجتهد من فهم آيات وأحاديث الأحكام.7. العلم بأصول الفقه: إذ أن المجتهد يحتاج إلى أدوات وقواعد أصولية تمكنه من استنباط الأحكام من الأدلة الجزئية.8. معرفة مواطن الإجماع: إن معرفتها تحول دون إفتاء المجتهد خلاف الإجماع المتيقن.9. معرفة أحوال الناس وأعرافهم: مما يساعد على صحة الاجتهاد، وإدراك الوقائع التي ينزل عليها النصوص المناسبة.10. العلم بمقاصد الشريعة الإسلامية: التي أنزل القرآن لأجلها، وجاءت السنة النبوية لرعايتها.11 العدالة والتقوى (تحري الحق): لقبول فتواه لا لصحة الاجتهاد.
ثالثا: مراتب المجتهدين
1. المجتهد المطلق (المستقل): وهو المجتهد الذي يملك أهلية استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية في الكتاب والسنة دون التقيد بأي مذهب، ومن أشهرهم:* فقهاء الصحابة:- بالمدينة المنورة: الخلفاء الراشدون، زيد بن ثابت، أبي بن كعب، عبد الله بن عمر، عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم.- بمكة: عبد الله بن عباس.- بالكوفة: عبد الله بن مسعود.- بالبصرة: أنس بن مالك، أبو موسى الأشعري.- بالشام: معاذ بن جبل.- بمصر: عبد الله بن عمرو بن العاص.
* فقهاء التابعين:- بالمدينة المنورة: عروة بن الزبير، سعيد بن المسيب.- بالكوفة: سعيد بن جبير.* الأئمة الأربعة والأوزاعي والليث بن سعد...
2. المجتهد المنتسب (المقيد): وهو المجتهد الذي تربى في مدرسة فقهية معينة فيتقيد بفقهها ولا يخرج عن مذهب إمامه، ولهذه المرتبة أقسام هي:أ- المجتهد المتتبع لإمامه في منهجه الاستنباطي مثل أبو يوسف ومحمد ابن الحسن وزفر في المذهب الحنفي، وأشهب وابن القاسم في المذهب المالكي، والقاضي أبو يعلى وابن تيمية في المذهب الحنبلي...ب- المجتهد المقيد بمذهب إمامه (بأصول المذهب)، ويلحق الفروع بالأصول المقررة فيه، ولكن يجتهد في إطار قواعده (اجتهاد مذهبي)، ومن أشهرهم: الإمام الطحاوي و الكرخي والسرخسي في المذهب الحنفي.ج- مجتهد مُرجِح: يرجح بين الآراء المروية في المذهب اعتمادا على قوة الدليل أو الملاءمة للعصر (هذا أولى، هذا أوفق للقياس، هذا أرفق بالناس)، مثل أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص في المذهب الحنفي، فهو مجتهد حافظ لمذهب إمامه عارف بأدلته.
3. مجتهد في نوع معين من العلم (باب من الأبواب): وهو المتخصص في علم من العلوم – وهذا جائز شرعا – خاصة وأن هذا العصر عصر التخصص، كالمجتهد في مسائل القياس، أو المجتهد في علم الفرائض.
رابعا: تجزؤ الاجتهاد
ذهب الإمام الغزالي – في كتابه المستصفى – وغيره إلى إمكانية تجزؤ الاجتهاد فيجوز للعالم الاجتهاد في بعض المسائل دون غيرها، فيتخصص أحد العلماء في مسائل الفرائض والآخر في السياسة الشرعية وغيرهما في المسائل التجارية، وهذا مما ييسر التعمق في المجالات المتخصص فيها.
خامسا: مجال الاجتهاد
هو كل حكم شرعي عملي ليس فيه دليل قاطع، فالقطعيات ليست مجال اجتهاد، مثل وجوب الصلاة وعدد ركعاتها، والمحرمات الثابتة، بنصوص محكمة كتحريم التعامل بالربا وقتل النفس بغير حق، إذ لا اجتهاد في مورد النص.
سادسا: أنواع الاجتهاد
1. الاجتهاد الانتقائي أو الترجيحي: يزخر التراث الفقهي بثروة هائلة من الآراء المختلفة والتي من شأنها أن فتحت المجال واسعا للمجتهدين والمفتين لانتقاء الرأي الفقهي الذي يستند إلى الدليل الصحيح والحجة القوية.فمثلا الطلاق المعدد قال بشأنه معظم العلماء أنه يقع بينونة كبرى، أما ابن تيمية وابن القيم وغيرهما قالوا أنه لا يقع لأنه طلاق بدعي، وأمام هذا الاختلاف فللمفتي أن يختار أحد الرأيين.2. الاجتهاد الإبداعي أو الإنشائي: مع ظهور مستجدات كان لزاما على الاجتهاد أن يواكبها ويدلي برأي الشرع فيها إباحة أو ندبا أو حظرا، ومن أهم قضايا العصر: زرع الأعضاء واستئجار الأرحام والمعاملات الاقتصادية...فالاجتهاد الإنشائي ينصرف إلى المسائل الجديدة، أو إلى المسائل القديمة مع إضافة الجديد، ومن أمثلة هذا الأخير قضية المعني بالزكاة في حال استئجار الأرض، فمن العلماء من قال أن صاحب الأرض هو الذي يزكي، وذهب آخرون إلى أن المستأجر هو المزكي، لكن ابن رشد في كتابه "بداية المجتهد" يرى أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة تبعا لاختلافهم في حق الزكاة هل هو خاص بالأرض أو بالثمر، وقال أن الزكاة تشملهما.
سابعا: صور الاجتهاد
ثانيا: شروطه
تتحقق أهلية الاجتهاد بشروط هي:1. العلم بالقرآن الكريم: خاصة آيات الأحكام الواردة في كتاب الله دون اشتراط حفظه كاملا...2. معرفة أسباب النزول: لأنه يساعد على فهم النصوص.3. الإحاطة بالسنة النبوية: خاصة الأحاديث المتعلقة بالأحكام الشرعية.4. معرفة أسباب ورود الحديث لإدراك مقصوده.5. العلم بالناسخ و المنسوخ في القرآن والسنة: لمعرفة النصوص التي يستدل بها إثباتا للأحكام الشرعية.6. العلم باللغة العربية: و الإحاطة بقواعدها و دلالاتها على معانيها ليتمكن المجتهد من فهم آيات وأحاديث الأحكام.7. العلم بأصول الفقه: إذ أن المجتهد يحتاج إلى أدوات وقواعد أصولية تمكنه من استنباط الأحكام من الأدلة الجزئية.8. معرفة مواطن الإجماع: إن معرفتها تحول دون إفتاء المجتهد خلاف الإجماع المتيقن.9. معرفة أحوال الناس وأعرافهم: مما يساعد على صحة الاجتهاد، وإدراك الوقائع التي ينزل عليها النصوص المناسبة.10. العلم بمقاصد الشريعة الإسلامية: التي أنزل القرآن لأجلها، وجاءت السنة النبوية لرعايتها.11 العدالة والتقوى (تحري الحق): لقبول فتواه لا لصحة الاجتهاد.
ثالثا: مراتب المجتهدين
1. المجتهد المطلق (المستقل): وهو المجتهد الذي يملك أهلية استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية في الكتاب والسنة دون التقيد بأي مذهب، ومن أشهرهم:* فقهاء الصحابة:- بالمدينة المنورة: الخلفاء الراشدون، زيد بن ثابت، أبي بن كعب، عبد الله بن عمر، عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم.- بمكة: عبد الله بن عباس.- بالكوفة: عبد الله بن مسعود.- بالبصرة: أنس بن مالك، أبو موسى الأشعري.- بالشام: معاذ بن جبل.- بمصر: عبد الله بن عمرو بن العاص.
* فقهاء التابعين:- بالمدينة المنورة: عروة بن الزبير، سعيد بن المسيب.- بالكوفة: سعيد بن جبير.* الأئمة الأربعة والأوزاعي والليث بن سعد...
2. المجتهد المنتسب (المقيد): وهو المجتهد الذي تربى في مدرسة فقهية معينة فيتقيد بفقهها ولا يخرج عن مذهب إمامه، ولهذه المرتبة أقسام هي:أ- المجتهد المتتبع لإمامه في منهجه الاستنباطي مثل أبو يوسف ومحمد ابن الحسن وزفر في المذهب الحنفي، وأشهب وابن القاسم في المذهب المالكي، والقاضي أبو يعلى وابن تيمية في المذهب الحنبلي...ب- المجتهد المقيد بمذهب إمامه (بأصول المذهب)، ويلحق الفروع بالأصول المقررة فيه، ولكن يجتهد في إطار قواعده (اجتهاد مذهبي)، ومن أشهرهم: الإمام الطحاوي و الكرخي والسرخسي في المذهب الحنفي.ج- مجتهد مُرجِح: يرجح بين الآراء المروية في المذهب اعتمادا على قوة الدليل أو الملاءمة للعصر (هذا أولى، هذا أوفق للقياس، هذا أرفق بالناس)، مثل أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص في المذهب الحنفي، فهو مجتهد حافظ لمذهب إمامه عارف بأدلته.
3. مجتهد في نوع معين من العلم (باب من الأبواب): وهو المتخصص في علم من العلوم – وهذا جائز شرعا – خاصة وأن هذا العصر عصر التخصص، كالمجتهد في مسائل القياس، أو المجتهد في علم الفرائض.
رابعا: تجزؤ الاجتهاد
ذهب الإمام الغزالي – في كتابه المستصفى – وغيره إلى إمكانية تجزؤ الاجتهاد فيجوز للعالم الاجتهاد في بعض المسائل دون غيرها، فيتخصص أحد العلماء في مسائل الفرائض والآخر في السياسة الشرعية وغيرهما في المسائل التجارية، وهذا مما ييسر التعمق في المجالات المتخصص فيها.
خامسا: مجال الاجتهاد
هو كل حكم شرعي عملي ليس فيه دليل قاطع، فالقطعيات ليست مجال اجتهاد، مثل وجوب الصلاة وعدد ركعاتها، والمحرمات الثابتة، بنصوص محكمة كتحريم التعامل بالربا وقتل النفس بغير حق، إذ لا اجتهاد في مورد النص.
سادسا: أنواع الاجتهاد
1. الاجتهاد الانتقائي أو الترجيحي: يزخر التراث الفقهي بثروة هائلة من الآراء المختلفة والتي من شأنها أن فتحت المجال واسعا للمجتهدين والمفتين لانتقاء الرأي الفقهي الذي يستند إلى الدليل الصحيح والحجة القوية.فمثلا الطلاق المعدد قال بشأنه معظم العلماء أنه يقع بينونة كبرى، أما ابن تيمية وابن القيم وغيرهما قالوا أنه لا يقع لأنه طلاق بدعي، وأمام هذا الاختلاف فللمفتي أن يختار أحد الرأيين.2. الاجتهاد الإبداعي أو الإنشائي: مع ظهور مستجدات كان لزاما على الاجتهاد أن يواكبها ويدلي برأي الشرع فيها إباحة أو ندبا أو حظرا، ومن أهم قضايا العصر: زرع الأعضاء واستئجار الأرحام والمعاملات الاقتصادية...فالاجتهاد الإنشائي ينصرف إلى المسائل الجديدة، أو إلى المسائل القديمة مع إضافة الجديد، ومن أمثلة هذا الأخير قضية المعني بالزكاة في حال استئجار الأرض، فمن العلماء من قال أن صاحب الأرض هو الذي يزكي، وذهب آخرون إلى أن المستأجر هو المزكي، لكن ابن رشد في كتابه "بداية المجتهد" يرى أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة تبعا لاختلافهم في حق الزكاة هل هو خاص بالأرض أو بالثمر، وقال أن الزكاة تشملهما.
سابعا: صور الاجتهاد
1. صور الفتوى (الإفتاء): تتمثل في إصدار فتاوى، وللفتاوى أهلها منذ عهد الصحابة، وأشهرهم حينئذ معاذ بن جبل وعمر بن الخطاب وزيد بن ثابت... رضي الله عنهم، وفي العصر الحديث تعددت طرق الفتوى عبر المساجد ووسائل الإعلام وجمعت بعضها في كتب منها:* فتاوى رشيد رضا المنشورة في مجلة المنار.* مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية شيخ الإسلام في 32 مجلد.* فتاوى محمود شلتوت دراسة لمشكلات المسلم المعاصر في حياته اليومية العامة.* فتاوى معاصرة للشيخ يوسف القرضاوي.وبعضها صدرت في مجلات منها:* مجلة الوعي الإسلامي.* مجلة المجمع الفقهي الإسلامي.
2. صورة الدراسة والبحث: عبارة عن دراسات جامعية: ماجستير ودكتوراه وبحوث... حول القضايا الفقهية الإسلامية.وتجدر الإشارة إلى ضرورة الاجتهاد في القضايا المستحدثة المتعلقة بالطب والاقتصاد... والابتعاد عن القضايا المستهلكة.
3. صورة التقنين: ويكون بتقنين الفقه الإسلامي في مواد محددة لتسهيل تطبيقه من القضاة، وتيسير معرفته من المتقاضين، فكانت مجلة الأحكام العدلية تجربة أولى في هذا المجال، وذلك في أواخر القرن الثالث عشر الهجري إذ شكلت الخلافة العثمانية لجنة من العلماء لتقنين أحكام المعاملات اعتمادا على الفقه الحنفي، ثم أصدرت قانون العائلة عام 1336ﻫ/1917م.وبعد ذلك صدرت عدة قوانين معتمدة على الفقه الإسلامي، منها:- قانون الميراث سنة 1943م بمصر.- قانون الوقف سنة 1946م بمصر.- قانون الإثبات الشرعي سنة 1976م باليمن.- القانون المدني سنة 1979م باليمن.- قانون حقوق العائلة الأردني عام 1951م.- قانون الأحوال الشخصية السوري عام 1953م.- مجلة الأحوال الشخصية التونسية عام 1956م.- مدونة الأحوال الشخصية المغربية عام 1957م.- قانون الأحوال الشخصية العراقي عام 1959م.- قانون الأسرة الجزائري عام 1984م.
* بعض مزالق الاجتهاد المعاصر:1. الغفلة عن بعض النصوص الشرعية: فيفتي المجتهد برأيه مع وجود النص، والأصل الاجتهاد بالرأي بعد استنفاذ الجهد في البحث عن النص:- (روى معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بعثه إلى اليمن، قال له: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله ؟ قال: أجتهد رأيي لا ألو، قال معاذ: فضرب رسول الله صدري، ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله).- من كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى شريح القاضي وغيره: [أن أقض بكتاب الله، فإن لم تجد فبسنة رسول الله، فإن لم تجد فاقض بما قضى به الصالحون و إلا فاجتهد رأيك].2. سوء فهم النصوص أو تحريفها: يعود المجتهد إلى النصوص الشرعية لكن يسيء تأويلها، كما فعل المستشار سعيد العشماويالذي شكك في قطعية الحرمة لورود كلمة الاجتناب بدل التحريم في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [سورة المائدة، الآية 90].وحقيقة الاجتناب أنها تفيد التحريم القطعي، فالله تعالى قرن كلمة الاجتناب بالشرك والفواحش وكبائر الإثم في قوله: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [سورة الحج، الآية 30]، وهذا فضلا عن ثبوت حرمة الخمر بأحاديث صحيحة.
3. القياس الفاسد (مع الفارق): كاليهود الذين أحلوا الربا وفق قاعدة: لا اقتصاد إلا ببنوك، ولا بنوك إلا بفوائد ربوية، وقد حرمه الله في قوله: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 275]، وكقياس زواج المسلمة بالكتابي بزواج المسلم بالكتابية.
4. الإعراض عن الإجماع المتيقن: فمن شروط الاجتهاد العلم بمواطن الإجماع، كاتفاق العلماء على جواز زواج المسلم من كتابية وتحريم زواج المسلمة بغير المسلم وإن كان كتابيا.
5. الغفلة عن واقع العصر: فينتج عنه فقه تبريري للواقع كإباحة التعامل بالربا باعتباره من خصائص المعاملات الاقتصادية والبنكية المعاصرة، وفقه إنكاري لكل المستجدات، كرفض زرع الأعضاء باعتبار حرمة كيان الإنسان، ورفض الكيفيات الجديدة في تنظيم القضاء بدعوى عدم ورودها في نصوص شرعية.
6. الغلو في اعتبار المصلحة بلا ضوابط شرعية: كإباحة التبني بدعوى تحقيق مصالح اللقطاء، ونقل صلاة الجمعة إلى يوم الأحد لضمان اجتماع أكبر عدد من المصلين في الصلاة، وإلغاء الرخص المشروعة بدعوى عدم الحاجة إليها، كالقصر والجمع في الصلاة مادامت وسائل النقل سريعة ومريحة.
ثامنا: أمثلة عن الاجتهاد المعاصر
1- الاستنساخ:أ- تعريف الاستنساخ:- لغة: استخراج نسخة مطابقة للأصل.- اصطلاحا: أخذ خلية من كائن حي حاملة للمعلومات الوراثية، وزرعها في بويضة مفرغة من معلوماتها الأصلية لتحصيل فرع موافق للأصل في صفاته الوراثية.
ج- موقف علماء الغرب من الاستنساخ البشري:أولا: المؤيدون- الأمريكان:د.J. Flecher من جامعة فرجينيا.د. G. Seidel من جامعة كلورادو.د. L. fleck من جامعة ميشجان.د. B. Hogan من معهد هاوردهيور الطبي.د. H. Varmus المدير العام لمعاهد الصحة الوطنية، الممول الرئيسي لميزانية الأبحاث البيولوجية الطبية الحكومية على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية.
- البريطانيون:د. R. Edwards من كامبريدج، الأب الروحي لأطفال الأنابيب.د. S. Fishel من انجلترا.الدكتورة عالمة الأجنة R.deech
* من مبرراتهم:1. تحقيق رغبة الأزواج المحرومين من الإنجاب باستنساخ أطفال لهم من خلاياهم.2. تحقيق رغبة أسرة ثرية في استنساخ فقيد عزيز عليها.3. إجراء الاستنساخ استجابة لمشاعر الفضول.4. تكوين جيل نخبة من المتميزين والمتفوقين أمثال حملة جائزة نوبل.
ثانيا: المعارضون
د. J. Rifkin أمريكي – عالم البيئة.د. J. Rotblat بريطاني – عالم الفيزياء الحائز على جائزة نوبل.* من مبرراتهم:1. الاستنساخ يناقض القيم الإنسانية والحضارية كلها.2. الاستنساخ سيقود الإنسان عاجلا أم آجلا إلى مجتمع عالمي مزور تسود فيه قيم مضادة لكل ما هو أخلاقي.3. إلغاء نظام الزواج.4. إلغاء التنوع البشري.
د- موقف علماء الإسلام والمجالس والندوات من الاستنساخ البشري:أفتى العلماء بالحرمة، منهم: مفتي الديار المصرية "د.عجيل النشمي" العميد السابق لكلية الشريعة و"د.يوسف القرضاوي" وغيرهما، من أدلتهم ما يلي:1. قضية الاستنساخ تهدم أربع كليات من الخمس: الدين، النفس، العقل، النسل.2. الاستنساخ تغيير لخلق الله ومناف للفطرة السليمة وقضاء على التنوع البشري، قال تعالى: ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ [سورة النساء، الآيتان 118-119]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [سورة الروم، الآية 22].وقال رسول الله : (لعن الله الواشمات والمستوشمات...المغيرات خلق الله) [متفق عليه عن ابن مسعود].3. هو امتهان لكرامة الإنسان: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا...﴾ [سورة الإسراء، الآية 70]، من خلال إخضاع الإنسان للتجارب واللعب في جيناته وموروثاته.
4. الاستنساخ هدم للأسرة لأنه:- ذرية دون زواج بين طرفين.- هدم لمعاني الأبوة والأمومة.- هدم لرباط النسب (اختلاط الأنساب).- هدم لنظام المواريث.
5. الاستنساخ عبث بسنن الله في خلقه، قال تعالى:﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [سورة القمر، الآية 49].﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [سورة التين، الآية 4].﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [سورة الذاريات، الآية 49].﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة يس، الآية 36].﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [سورة الشورى 49-50].﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [سورة آل عمران، الآية 6].لذلك كله لا يجوز الاستنساخ البشري، ويمنع سدا لذرائع الفساد، ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح والمنافع.وإلى هذا الرأي ذهبت المجالس والندوات الفقهية من خلال قراراتها الفقهية منها:
الندوة الفقهية الطبية التاسعة:نظمها مجمع الفقه الإسلامي (الندوة العاشرة) ومنظمة المؤتمر الإسلامي، في الدار البيضاء: 08-11 صفر 1418ﻫ الموافق لـ 14-17 جوان 1997م، توصي الندوة بما يلي:1. تجريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحما أم بويضة أم حيوانا أم خلية جسدية للاستنساخ.2. ...3. مناشدة الدول سن التشريعات القانونية اللازمة لغلق الأبواب المباشرة وغير المباشرة أمام الجهات الأجنبية والمؤسسات البحثية والخبراء الأجانب للحيلولة دون اتخاذ البلاد الإسلامية ميدانا لتجارب الاستنساخ البشري والترويج لها.
* مجلس مجمع الفقه الإسلامي:المنعقد في مؤتمره العاشر بجدة بالسعودية من 23 إلى 28 صفر 1418ﻫ الموافق لـ من 28 جوان إلى 03 جويلية 1997م.الاستنساخ هو توليد كائن حي أو أكثر إما بنقل النواة من خلية جسدية إلى بويضة منزوعة النواة، وإما بتشطير البويضة مخصبة في مرحلة تسبق تمايز الأنسجة والأعضاء.قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [سورة المؤمنون، الآيتان 12-14].قرر المجلس ما يلي: قرار رقم 100/2/د/10 بشأن الاستنساخ البشري:1. تحريم الاستنساخ البشري بطريقتيه المذكورتين أو بأي طريقة أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري.2. ...3. تحريم كل الحالات التي يُقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحما أو بويضة أم حيوانا منويا أم خلية جسدية للاستنساخ.4. ...5. مناشدة الدول الإسلامية إصدار القوانين والأنظمة اللازمة لغلق الأبواب المباشرة وغير المباشرة أمام الجهات المحلية أو الأجنبية والمؤسسات البحثية والخبراء الأجانب للحيلولة دون اتخاذ البلاد الإسلامية ميدانا لتجارب الاستنساخ البشري والترويج لها.
2- التبرع بأعضاء الجسم:أ- أدلة المشروعية:1. قال تعالى: ﴿...وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ [سورة الحشر، الآية 9].2. وقال أيضا: ﴿... فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة البقرة، الآية 173].3. قال الرسول : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) [رواه البخاري].4. وقال أيضا: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) [رواه البخاري].5. القياس على جواز التبرع بالدم.6. القياس على جواز التضحية بالنفس جهادا.7. القواعد الفقهية منها:- الضرورات تبيح المحظورات.- الضرر يُزال.- إذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما ضررا.- إذا ضاق الأمر اتسع.- المشقة تجلب التيسير.- يختار أهون الشرين.- الحاجة تنزل منزلة الضرورة.
ب- شروط جواز التبرع بالعضو الآدمي:1. لا تجوز المتاجرة بالأعضاء الآدمية (يمنع بيعها).2. لا يجوز التبرع بعضو يتوقف عليه استمرار حياة المتبرع مثل: القلب والكبد والرئتين لأنه انتحار.3. لا يجوز التبرع بما يؤدي إلى اختلاط الأنساب التي حرص الشرع على طهارتها مثل: المني والخصية والمبيض والأعضاء التناسلية.4. أن يكون المتبرع كامل الأهلية والإرادة: ليس صغيرا ولا مجنونا ولا معتوها.5. معرفة مقدار الأضرار التي تترتب عن قطع العضو المتبرع به (المفاسد العاجلة والآجلة ).6. معرفة مقدار الأضرار المراد دفعها عن المتبرع له بالنظر إلى حالته المرضية.7. معرفة مقدار المصالح التي تتحقق للمتبرع له.8. ألا يكون المتبرع له كافرا محاربا، أو مرتدا مجاهرا، أو زانيا محصنا، أو قاطع طريق أو قاتلا مستحقا للقصاص.9. أن تنعدم السبل الأخرى مثل: العضو الاصطناعي، أو عضو الميت... التي يمكن بها إنقاذ المتبرع له (إنقاذ حياته أو عضوه المعرض للتلف).فتطبيق قاعدة: اختيار( تحمل) أهون الشرين (المفسدتين) مرهون بعدم القدرة على إزالتهما (دفعهما).يقول العز بن عبد السلام: (قواعد الأحكام ج1-ص98): [إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك، و إن تعذر الدرء والتحصيل فان كانت المفسدة أعظم من المصلحة، درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة...].10. يمنع التبرع بالعضو الوحيد ولو لم يؤد ذلك إلى الوفاة مثل: العين التي تُلِفت أختها، البنكرياس، اللسان.11. يصح أخذ عضو الميت بناء على وصية منه أو إذن من ورثته.
قرار المجمع الفقهي:الصادر في دورته الثامنة المنعقدة بمكة المكرمة عام 1405ﻫ الموافق لـ 1985م: "إن أخذ عضو من جسم إنسان حي وزرعه في جسم إنسان آخر مضطر إليه لإنقاذ حياته أو لاستعادة وظيفة من وظائف أعضائه الأساسية، هو عمل جائز لا يتنافى مع الكرامة الإنسانية بالنسبة للمأخوذ منه، كما أن فيه مصلحة كبيرة وإعانة خيرة للمزروع فيه، وهو عمل مشروع وحميد إذا توفرت فيه الشروط التالية:
1. أن يكون إعطاء العضو طوعا من المتبرع دون إكراه.2. أن لا يضر أخذ العضو من المتبرع به ضررا يخل بحياته العادية، لأن القاعدة الشرعية تقرر أن "الضرر لا يزال بضرر مثله ولا بأشد منه"، ولأن الأمر حينئذ يكون من قبيل الإلقاء بالنفس إلى التهلكة وهو أمر غير جائز شرعا.3. أن يكون زرع العضو هو الوسيلة الطبية الوحيدة الممكنة لمعالجة المريض المضطر.4. أن يكون نجاح كل من عمليتي النزع والزرع محققا في العادة أو غالبا.
قرار هيئة كبار العلماء بالسعودية:رقم 99 الصادر في 6/11/1402ﻫ: ونصه:- جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان حي مسلم أو ذمي إلى نفسه إذا دعت الحاجة إليه وأمن الخطر في نزعه وغلب على الظن نجاح زرعه.- جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت إلى مسلم إذا اضطر إلى ذلك وأمنت الفتنة في نزعه ممن أخذ منه، وغلب على الظن نجاح زرعه فيمن سيزرع فيه.- جواز تبرع الإنسان الحي بنقل عضو منه أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك.
3- التلقيح الاصطناعي:أ- أنواعه:1. الداخلي: أن تؤخذ بذرة أو نطفة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها.2. الخارجي: أن تؤخذ بذرة الزوج وبويضة زوجته، ويتم التلقيح خارجيا (داخل أنبوب) ثم تُزرع اللقيحة في رحم الزوجة.
ب- مشروعيته: يجوز التلقيح الاصطناعي بالشروط الآتية:1. أن يكون عقد الزواج شرعيا.2. أن يتم التلقيح أثناء قيام الرابطة الزوجية: لا بعد الطلاق البائن ولا بعد الوفاة.3. أن يتم التلقيح بين ماء (نطفة) الزوج وبويضة الزوجة دون طرف ثالث، سواء كان رحما (استئجار الأرحام أو الأم البديلة)، أو بويضة أو حيوانا منويا.
4- المعاملات البنكية والفوائد الربويةإن النظام الربوي بلاء على الإنسانية في إيمانها وقيمها وحياتها الاقتصادية، أما النظام الإسلامي في مجال المعاملات البنكية يقوم على أسس تكفل النهوض بالاقتصاد وتحقق التنمية بعيدا عن الظلم والاستغلال، منها:أ- تطبيق الشريعة الإسلامية في كافة الأنشطة الاستثمارية وغيرها.ب- عدم التعامل بالربا لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 275]، وقوله أيضا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[سورة آل عمران، الآية 130].
ج- أداء جميع الأعمال المصرفية التي تخدم الحياة الاقتصادية.وقد تأكدت تلك الأسس في قرارات المجامع الفقهية منها:* قرار مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة عام 1975: ومما جاء فيه:اتفق علماء مؤتمر البحوث الإسلامية الثاني في شأن المعاملات المصرفية على ما يأتي:أ- الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي، لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين.ب- كثير الربا وقليله حرام كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في تحريم النوعين.ج- الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك، ولا يرتفع إثمه عن المقتِرض إلا إذا دعت إليه الضرورة.د- الحسابات ذات الأجل وفتح الاعتماد بفائدة وسائر أنواع الاقراض نظير فائدة كلها من المعاملات الربوية وهي محرمة.
* المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي بدبي:المنعقد بمقر بنك دبي الإسلامي بدولة الإمارات العربية المتحدة خلال المدة من 23 إلى 25 جمادى الثانية عام 1399ﻫ/ الموافق لـ من 20 إلى 22 مايو 1979م.قد تناول بالبحث والدراسة المواضيع الفقهية الشرعية والاقتصادية المتعلقة بأعمال المصارف الإسلامية وفحص هذه الأعمال وبحثها بحثا مستفيضا بما ارتاحت إليه قلوب المؤتمرين من فقهاء الشريعة الإسلامية ورجال الاقتصاد ورجال القانون من حيث سلامة تلك الأعمال والتحقق من نفعها الأكيد ومطابقتها لأحكام الشريعة الإسلامية...لذلك يناشد المؤتمر دول العالم الإسلامي أجمع أن تبادر إلى إقامة مصارفها على أسس وقواعد المصارف الإسلامية وأن تقدم لهذه المصارف كافة المساعدات التي تمكنها من تسيير أعمالها بيسر وأن تباشر نشاطها بما يدعم اقتصاديات العالم الإسلامي ويحقق تكاملها.
* المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي:المنعقد بين 6-8 جمادى الثانية 1403ﻫ الموافق لـ 21-23 مارس 1983م، جاء في توصياته:1. يؤكد المؤتمر أن ما يسمى بالفائدة في اصطلاح الاقتصاديين الغربيين ومن تبعهم هو من الربا المحرم شرعا.2. يوصي المؤتمر أصحاب الأموال من المسلمين بتوجيه أموالهم أولا إلى المصارف والمؤسسات والشركات الإسلامية داخل البلاد العربية والبلاد الإسلامية ثم إلى خارجها وإلى أن يتم ذلك تكون الفائدة التي يحصلون عليها كسبا خبيثا وعليهم استيفاؤها والتخلص منها بصرفها في مصالح المسلمين العامة ويعتبر الاستمرار في إيداع الأموال في البنوك والمؤسسات الربوية مع إمكان تفادي ذلك عملا محرما شرعا.3. يوصي المؤتمر بتشجيع المصارف الإسلامية القائمة ودعم إنشاء المزيد من هذه المصارف لتعم منافعها على جميع المستويات.
* المؤتمر الثالث للمصرف الإسلامي:المنعقد بين 9-11 صفر 1406ﻫ الموافق لـ 25-27 أكتوبر 1985مجاء في فتاوي لجنة العلماء بالمؤتمر في البندين (1-2) ما يلي:أولا: إقامة المصارف الإسلامية على أسس شرع الله ودينه من تحريم الربا والغرر والجهالة وغيرها ضرورة شرعية ومصلحة من مصالح الأمة الجوهرية.ثانيا: نظرا للخدمات التي تؤديها المصارف الإسلامية من تيسير التجارة الدولية والمحلية وتسهيل استبدال العملات وجمع فائض الأموال من المسلمين واستثمارها على الوجه المشروع، وتوجيهها إلى مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي لا غنى للمجتمع المسلم عنها تقرر أن:إقامة المصارف الإسلامية حيث يوجد للمسلمين فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين وإذا لم يقم به أحد فالكل آثمون.* مجمع الفقه الإسلامي بجدة:جاء في القرار الأول لهذا المجمع في دورته الثالثة المنعقدة بعمان بتاريخ: 8-13 صفر 1407ﻫ الموافق لـ: 11-16 أكتوبر 1986م، بشأن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية حول خدمات القروض: [كل زيادة عن الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعا].
تاسعا: الاجتهاد الجماعي
1. في عصر الصحابة: روى الدارمي والبيهقي عن ميمون بن مهران قال: [كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم، وإن لم يجد في كتاب الله نظر هل كانت من النبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة، فإن علمها قضى بها، فإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين فقال: أتاني كذا وكذا... فهل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما قام إليه الرهط فقالوا: نعم، قضى فيه بكذا وكذا، فيأخذ بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول عند ذلك: "الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا "، وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به].وكذلك كان يفعل عمر بن الخطاب "وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين – عمر بن الخطاب – ليس عنده فيها نص عن الله، ولا عن رسوله جمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعلها شورى بينهم".
* ومن أمثلة الاجتهاد ما يلي:أ- الاجتهاد في أمر الخلافة: وقع الخلاف بين الصحابة ثم اتفقوا على تولية أبي بكر الصديق قياسا على إمامته للصلاة، إذ قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس.ب- الاجتهاد في المسألة المشتركة: والرأي الذي يقضي بالاشتراك يضم: عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت وغيرهم...
ج- أمر الطاعون: لما خرج عمر بن الخطاب إلى الشام وهو في الطريق علم أن الطاعون قد اشتعل بها، فاستشار الصحابة في مواصلة السير إليها أو العودة فرارا من الطاعون، فاختلفوا في ذلك بين من يرى المواصلة أو العودة فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أتفر من قدر الله يا عمر؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله.وبعد مدة جاء عبد الرحمن بن عوف وكان متخلفا عن الركب، ولما علم بالأمر قال: عندي من هذا علم، فقال له عمر: أنت عندنا الأمين المصَدق فماذا عندك؟ قال سمعت رسول الله يقول (إذا سمعتم بهذا الوباء فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فرارا منه) [حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وأحمد من حديث عبد الرحمن بن عوف]، كما روي عن أسامة بن زيد مثله ولفظه (إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا فرارا منه).
2. في عصر التابعين: ظهرت عدة مدارس من أبرزها مدرستي أهل الحديث وأهل الرأي: أ- مدرسة أهل الحديث في الحجاز: مهبط الوحي ومهد السنة النبوية ومنبع الحديث، لها امتداد إلى الصحابة مثل عبد الله بن عمر بن الخطاب.من علماء هذه المدرسة سعيد بن المسيب، عروة بن الزبير.
* من مميزاتها:- الاعتناء بالحديث وتقديمه على الرأي.- كراهية السؤال عما لم يقع.
ب- مدرسة أهل الرأي في العراق: لها امتداد إلى الصحابة مثل: عمر بن الخطاب، عبد الله بن مسعود... من علمائها: إبراهيم النخعي، شريح بن الحارث القاضي...
* من مميزاتها:- التوسع في الأخذ بالرأي، وعدم التهيب من الفتوى.- افتراض مسائل لم تقع، ووضع حلول لها.
3. في عصر الأئمة المجتهدين: وهو العصر الذهبي للاجتهاد الفقهي، ونشأت فيه المذاهب الفقهية الكبرى: مذهب الإمام الأوزاعي بالشام، والليث بن سعد بمصر... وعرف هذا العصر كثرة الوقائع والمستجدات والمناقشات والمناظرات...و المذاهب الكبرى تنسب إلى فقهاء مثل: أحمد والشافعي وأبو حنيفة ومالك... وهي تمثل اتجاها جماعيا في الاجتهاد.
4. في الوقت المعاصر: لقد استجدت في دنيا الناس قضايا جديدة في مجالات عديدة بسبب الثورات التي يشهدها العالم المعاصر خاصة في المجال الطبي والاقتصادي منها: قضية الاستنساخ البشري والتبرع بالأعضاء الآدمية والمعاملات الاستثمارية والبنكية المختلفة، وهي قضايا تتطلب النظر من مجموع الفقهاء المؤهلين إضافة إلى اهل الخبرة في المجالات المختلفة ذلك ما ترجم عمليا من خلال المجامع الفقهية والمؤتمرات العالمية (راجع التفاصيل في النقطة السابقة).
عاشرا: ضوابط الاجتهاد السليم
1. التزام خط الاعتدال والتوازن: الجامع بين النصوص الشرعية ومقاصد الشريعة، وبين محكمات الشريعة ومقتضيات العصر، لقوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[سورة البقرة، الآية 143]، وهذا يقتضي كما قال الشيخ القرضاوي في كتابه "الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط" ص 91: [العلم العاصم من الحكم بالجهل، والورع العاصم من الحكم بالهوى، والاعتدال العاصم من الغلو والتفريط].
2. التقيد بدائرة الاجتهاد: وهي دائرة الظنيات، إذ لا اجتهاد في مورد النص أي النص القطعي، فالقطعيات المحكمات تحفظ أصول الدين، والظنيات تستجيب لمقتضيات العصر.
3. الجمع بين الفقه والحديث: طالب الفقه بغير علم بالحديث قد يستشهد بأحاديث ضعيفة أو لا أصل لها ويبني عليها أحكاما، وطالب الحديث بلا فقه معرض للضياع، قال الرسول : (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) [متفق عليه].قال سفيان الثوري وغيره: [لو كان أحدنا قاضيا لضربنا بالجريد فقيها لا يتعلم الحديث، ومحدثا لا يتعلم الفقه].
4. الاستعانة بأهل الخبرة: عند ممارسة الاجتهاد خاصة في هذا العصر الذي يقتضي مواجهة مستجداته الكثيرة والحساسة: الاستنساخ، زرع الأعضاء، التبرع بالأعضاء...، قال تعالى:﴿...فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [سورة الفرقان، الآية 59].﴿...وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [سورة فاطر، الآية 14].﴿...فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة النحل، الآية 43].
5. الجمع بين الاجتهاد الفردي والجماعي ولزومهما معا: لأننا لا يمكن الاستغناء عن الاجتهادات الفردية للعلماء وهي تمثل روافد قوية للاجتهاد الجماعي الممثل في المجامع الفقهية والندوات العالمية.
6. ضرورة بذل الجهد المتاح "الوسع": في استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية عملا بحديث معاذ بن جبل [أجتهد رأيي ولا آلو].
2. صورة الدراسة والبحث: عبارة عن دراسات جامعية: ماجستير ودكتوراه وبحوث... حول القضايا الفقهية الإسلامية.وتجدر الإشارة إلى ضرورة الاجتهاد في القضايا المستحدثة المتعلقة بالطب والاقتصاد... والابتعاد عن القضايا المستهلكة.
3. صورة التقنين: ويكون بتقنين الفقه الإسلامي في مواد محددة لتسهيل تطبيقه من القضاة، وتيسير معرفته من المتقاضين، فكانت مجلة الأحكام العدلية تجربة أولى في هذا المجال، وذلك في أواخر القرن الثالث عشر الهجري إذ شكلت الخلافة العثمانية لجنة من العلماء لتقنين أحكام المعاملات اعتمادا على الفقه الحنفي، ثم أصدرت قانون العائلة عام 1336ﻫ/1917م.وبعد ذلك صدرت عدة قوانين معتمدة على الفقه الإسلامي، منها:- قانون الميراث سنة 1943م بمصر.- قانون الوقف سنة 1946م بمصر.- قانون الإثبات الشرعي سنة 1976م باليمن.- القانون المدني سنة 1979م باليمن.- قانون حقوق العائلة الأردني عام 1951م.- قانون الأحوال الشخصية السوري عام 1953م.- مجلة الأحوال الشخصية التونسية عام 1956م.- مدونة الأحوال الشخصية المغربية عام 1957م.- قانون الأحوال الشخصية العراقي عام 1959م.- قانون الأسرة الجزائري عام 1984م.
* بعض مزالق الاجتهاد المعاصر:1. الغفلة عن بعض النصوص الشرعية: فيفتي المجتهد برأيه مع وجود النص، والأصل الاجتهاد بالرأي بعد استنفاذ الجهد في البحث عن النص:- (روى معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بعثه إلى اليمن، قال له: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله ؟ قال: أجتهد رأيي لا ألو، قال معاذ: فضرب رسول الله صدري، ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله).- من كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى شريح القاضي وغيره: [أن أقض بكتاب الله، فإن لم تجد فبسنة رسول الله، فإن لم تجد فاقض بما قضى به الصالحون و إلا فاجتهد رأيك].2. سوء فهم النصوص أو تحريفها: يعود المجتهد إلى النصوص الشرعية لكن يسيء تأويلها، كما فعل المستشار سعيد العشماويالذي شكك في قطعية الحرمة لورود كلمة الاجتناب بدل التحريم في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [سورة المائدة، الآية 90].وحقيقة الاجتناب أنها تفيد التحريم القطعي، فالله تعالى قرن كلمة الاجتناب بالشرك والفواحش وكبائر الإثم في قوله: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [سورة الحج، الآية 30]، وهذا فضلا عن ثبوت حرمة الخمر بأحاديث صحيحة.
3. القياس الفاسد (مع الفارق): كاليهود الذين أحلوا الربا وفق قاعدة: لا اقتصاد إلا ببنوك، ولا بنوك إلا بفوائد ربوية، وقد حرمه الله في قوله: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 275]، وكقياس زواج المسلمة بالكتابي بزواج المسلم بالكتابية.
4. الإعراض عن الإجماع المتيقن: فمن شروط الاجتهاد العلم بمواطن الإجماع، كاتفاق العلماء على جواز زواج المسلم من كتابية وتحريم زواج المسلمة بغير المسلم وإن كان كتابيا.
5. الغفلة عن واقع العصر: فينتج عنه فقه تبريري للواقع كإباحة التعامل بالربا باعتباره من خصائص المعاملات الاقتصادية والبنكية المعاصرة، وفقه إنكاري لكل المستجدات، كرفض زرع الأعضاء باعتبار حرمة كيان الإنسان، ورفض الكيفيات الجديدة في تنظيم القضاء بدعوى عدم ورودها في نصوص شرعية.
6. الغلو في اعتبار المصلحة بلا ضوابط شرعية: كإباحة التبني بدعوى تحقيق مصالح اللقطاء، ونقل صلاة الجمعة إلى يوم الأحد لضمان اجتماع أكبر عدد من المصلين في الصلاة، وإلغاء الرخص المشروعة بدعوى عدم الحاجة إليها، كالقصر والجمع في الصلاة مادامت وسائل النقل سريعة ومريحة.
ثامنا: أمثلة عن الاجتهاد المعاصر
1- الاستنساخ:أ- تعريف الاستنساخ:- لغة: استخراج نسخة مطابقة للأصل.- اصطلاحا: أخذ خلية من كائن حي حاملة للمعلومات الوراثية، وزرعها في بويضة مفرغة من معلوماتها الأصلية لتحصيل فرع موافق للأصل في صفاته الوراثية.
ج- موقف علماء الغرب من الاستنساخ البشري:أولا: المؤيدون- الأمريكان:د.J. Flecher من جامعة فرجينيا.د. G. Seidel من جامعة كلورادو.د. L. fleck من جامعة ميشجان.د. B. Hogan من معهد هاوردهيور الطبي.د. H. Varmus المدير العام لمعاهد الصحة الوطنية، الممول الرئيسي لميزانية الأبحاث البيولوجية الطبية الحكومية على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية.
- البريطانيون:د. R. Edwards من كامبريدج، الأب الروحي لأطفال الأنابيب.د. S. Fishel من انجلترا.الدكتورة عالمة الأجنة R.deech
* من مبرراتهم:1. تحقيق رغبة الأزواج المحرومين من الإنجاب باستنساخ أطفال لهم من خلاياهم.2. تحقيق رغبة أسرة ثرية في استنساخ فقيد عزيز عليها.3. إجراء الاستنساخ استجابة لمشاعر الفضول.4. تكوين جيل نخبة من المتميزين والمتفوقين أمثال حملة جائزة نوبل.
ثانيا: المعارضون
د. J. Rifkin أمريكي – عالم البيئة.د. J. Rotblat بريطاني – عالم الفيزياء الحائز على جائزة نوبل.* من مبرراتهم:1. الاستنساخ يناقض القيم الإنسانية والحضارية كلها.2. الاستنساخ سيقود الإنسان عاجلا أم آجلا إلى مجتمع عالمي مزور تسود فيه قيم مضادة لكل ما هو أخلاقي.3. إلغاء نظام الزواج.4. إلغاء التنوع البشري.
د- موقف علماء الإسلام والمجالس والندوات من الاستنساخ البشري:أفتى العلماء بالحرمة، منهم: مفتي الديار المصرية "د.عجيل النشمي" العميد السابق لكلية الشريعة و"د.يوسف القرضاوي" وغيرهما، من أدلتهم ما يلي:1. قضية الاستنساخ تهدم أربع كليات من الخمس: الدين، النفس، العقل، النسل.2. الاستنساخ تغيير لخلق الله ومناف للفطرة السليمة وقضاء على التنوع البشري، قال تعالى: ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ [سورة النساء، الآيتان 118-119]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [سورة الروم، الآية 22].وقال رسول الله : (لعن الله الواشمات والمستوشمات...المغيرات خلق الله) [متفق عليه عن ابن مسعود].3. هو امتهان لكرامة الإنسان: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا...﴾ [سورة الإسراء، الآية 70]، من خلال إخضاع الإنسان للتجارب واللعب في جيناته وموروثاته.
4. الاستنساخ هدم للأسرة لأنه:- ذرية دون زواج بين طرفين.- هدم لمعاني الأبوة والأمومة.- هدم لرباط النسب (اختلاط الأنساب).- هدم لنظام المواريث.
5. الاستنساخ عبث بسنن الله في خلقه، قال تعالى:﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [سورة القمر، الآية 49].﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [سورة التين، الآية 4].﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [سورة الذاريات، الآية 49].﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة يس، الآية 36].﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [سورة الشورى 49-50].﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [سورة آل عمران، الآية 6].لذلك كله لا يجوز الاستنساخ البشري، ويمنع سدا لذرائع الفساد، ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح والمنافع.وإلى هذا الرأي ذهبت المجالس والندوات الفقهية من خلال قراراتها الفقهية منها:
الندوة الفقهية الطبية التاسعة:نظمها مجمع الفقه الإسلامي (الندوة العاشرة) ومنظمة المؤتمر الإسلامي، في الدار البيضاء: 08-11 صفر 1418ﻫ الموافق لـ 14-17 جوان 1997م، توصي الندوة بما يلي:1. تجريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحما أم بويضة أم حيوانا أم خلية جسدية للاستنساخ.2. ...3. مناشدة الدول سن التشريعات القانونية اللازمة لغلق الأبواب المباشرة وغير المباشرة أمام الجهات الأجنبية والمؤسسات البحثية والخبراء الأجانب للحيلولة دون اتخاذ البلاد الإسلامية ميدانا لتجارب الاستنساخ البشري والترويج لها.
* مجلس مجمع الفقه الإسلامي:المنعقد في مؤتمره العاشر بجدة بالسعودية من 23 إلى 28 صفر 1418ﻫ الموافق لـ من 28 جوان إلى 03 جويلية 1997م.الاستنساخ هو توليد كائن حي أو أكثر إما بنقل النواة من خلية جسدية إلى بويضة منزوعة النواة، وإما بتشطير البويضة مخصبة في مرحلة تسبق تمايز الأنسجة والأعضاء.قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [سورة المؤمنون، الآيتان 12-14].قرر المجلس ما يلي: قرار رقم 100/2/د/10 بشأن الاستنساخ البشري:1. تحريم الاستنساخ البشري بطريقتيه المذكورتين أو بأي طريقة أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري.2. ...3. تحريم كل الحالات التي يُقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحما أو بويضة أم حيوانا منويا أم خلية جسدية للاستنساخ.4. ...5. مناشدة الدول الإسلامية إصدار القوانين والأنظمة اللازمة لغلق الأبواب المباشرة وغير المباشرة أمام الجهات المحلية أو الأجنبية والمؤسسات البحثية والخبراء الأجانب للحيلولة دون اتخاذ البلاد الإسلامية ميدانا لتجارب الاستنساخ البشري والترويج لها.
2- التبرع بأعضاء الجسم:أ- أدلة المشروعية:1. قال تعالى: ﴿...وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ [سورة الحشر، الآية 9].2. وقال أيضا: ﴿... فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة البقرة، الآية 173].3. قال الرسول : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) [رواه البخاري].4. وقال أيضا: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) [رواه البخاري].5. القياس على جواز التبرع بالدم.6. القياس على جواز التضحية بالنفس جهادا.7. القواعد الفقهية منها:- الضرورات تبيح المحظورات.- الضرر يُزال.- إذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما ضررا.- إذا ضاق الأمر اتسع.- المشقة تجلب التيسير.- يختار أهون الشرين.- الحاجة تنزل منزلة الضرورة.
ب- شروط جواز التبرع بالعضو الآدمي:1. لا تجوز المتاجرة بالأعضاء الآدمية (يمنع بيعها).2. لا يجوز التبرع بعضو يتوقف عليه استمرار حياة المتبرع مثل: القلب والكبد والرئتين لأنه انتحار.3. لا يجوز التبرع بما يؤدي إلى اختلاط الأنساب التي حرص الشرع على طهارتها مثل: المني والخصية والمبيض والأعضاء التناسلية.4. أن يكون المتبرع كامل الأهلية والإرادة: ليس صغيرا ولا مجنونا ولا معتوها.5. معرفة مقدار الأضرار التي تترتب عن قطع العضو المتبرع به (المفاسد العاجلة والآجلة ).6. معرفة مقدار الأضرار المراد دفعها عن المتبرع له بالنظر إلى حالته المرضية.7. معرفة مقدار المصالح التي تتحقق للمتبرع له.8. ألا يكون المتبرع له كافرا محاربا، أو مرتدا مجاهرا، أو زانيا محصنا، أو قاطع طريق أو قاتلا مستحقا للقصاص.9. أن تنعدم السبل الأخرى مثل: العضو الاصطناعي، أو عضو الميت... التي يمكن بها إنقاذ المتبرع له (إنقاذ حياته أو عضوه المعرض للتلف).فتطبيق قاعدة: اختيار( تحمل) أهون الشرين (المفسدتين) مرهون بعدم القدرة على إزالتهما (دفعهما).يقول العز بن عبد السلام: (قواعد الأحكام ج1-ص98): [إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك، و إن تعذر الدرء والتحصيل فان كانت المفسدة أعظم من المصلحة، درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة...].10. يمنع التبرع بالعضو الوحيد ولو لم يؤد ذلك إلى الوفاة مثل: العين التي تُلِفت أختها، البنكرياس، اللسان.11. يصح أخذ عضو الميت بناء على وصية منه أو إذن من ورثته.
قرار المجمع الفقهي:الصادر في دورته الثامنة المنعقدة بمكة المكرمة عام 1405ﻫ الموافق لـ 1985م: "إن أخذ عضو من جسم إنسان حي وزرعه في جسم إنسان آخر مضطر إليه لإنقاذ حياته أو لاستعادة وظيفة من وظائف أعضائه الأساسية، هو عمل جائز لا يتنافى مع الكرامة الإنسانية بالنسبة للمأخوذ منه، كما أن فيه مصلحة كبيرة وإعانة خيرة للمزروع فيه، وهو عمل مشروع وحميد إذا توفرت فيه الشروط التالية:
1. أن يكون إعطاء العضو طوعا من المتبرع دون إكراه.2. أن لا يضر أخذ العضو من المتبرع به ضررا يخل بحياته العادية، لأن القاعدة الشرعية تقرر أن "الضرر لا يزال بضرر مثله ولا بأشد منه"، ولأن الأمر حينئذ يكون من قبيل الإلقاء بالنفس إلى التهلكة وهو أمر غير جائز شرعا.3. أن يكون زرع العضو هو الوسيلة الطبية الوحيدة الممكنة لمعالجة المريض المضطر.4. أن يكون نجاح كل من عمليتي النزع والزرع محققا في العادة أو غالبا.
قرار هيئة كبار العلماء بالسعودية:رقم 99 الصادر في 6/11/1402ﻫ: ونصه:- جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان حي مسلم أو ذمي إلى نفسه إذا دعت الحاجة إليه وأمن الخطر في نزعه وغلب على الظن نجاح زرعه.- جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت إلى مسلم إذا اضطر إلى ذلك وأمنت الفتنة في نزعه ممن أخذ منه، وغلب على الظن نجاح زرعه فيمن سيزرع فيه.- جواز تبرع الإنسان الحي بنقل عضو منه أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك.
3- التلقيح الاصطناعي:أ- أنواعه:1. الداخلي: أن تؤخذ بذرة أو نطفة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها.2. الخارجي: أن تؤخذ بذرة الزوج وبويضة زوجته، ويتم التلقيح خارجيا (داخل أنبوب) ثم تُزرع اللقيحة في رحم الزوجة.
ب- مشروعيته: يجوز التلقيح الاصطناعي بالشروط الآتية:1. أن يكون عقد الزواج شرعيا.2. أن يتم التلقيح أثناء قيام الرابطة الزوجية: لا بعد الطلاق البائن ولا بعد الوفاة.3. أن يتم التلقيح بين ماء (نطفة) الزوج وبويضة الزوجة دون طرف ثالث، سواء كان رحما (استئجار الأرحام أو الأم البديلة)، أو بويضة أو حيوانا منويا.
4- المعاملات البنكية والفوائد الربويةإن النظام الربوي بلاء على الإنسانية في إيمانها وقيمها وحياتها الاقتصادية، أما النظام الإسلامي في مجال المعاملات البنكية يقوم على أسس تكفل النهوض بالاقتصاد وتحقق التنمية بعيدا عن الظلم والاستغلال، منها:أ- تطبيق الشريعة الإسلامية في كافة الأنشطة الاستثمارية وغيرها.ب- عدم التعامل بالربا لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 275]، وقوله أيضا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[سورة آل عمران، الآية 130].
ج- أداء جميع الأعمال المصرفية التي تخدم الحياة الاقتصادية.وقد تأكدت تلك الأسس في قرارات المجامع الفقهية منها:* قرار مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة عام 1975: ومما جاء فيه:اتفق علماء مؤتمر البحوث الإسلامية الثاني في شأن المعاملات المصرفية على ما يأتي:أ- الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي، لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين.ب- كثير الربا وقليله حرام كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في تحريم النوعين.ج- الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك، ولا يرتفع إثمه عن المقتِرض إلا إذا دعت إليه الضرورة.د- الحسابات ذات الأجل وفتح الاعتماد بفائدة وسائر أنواع الاقراض نظير فائدة كلها من المعاملات الربوية وهي محرمة.
* المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي بدبي:المنعقد بمقر بنك دبي الإسلامي بدولة الإمارات العربية المتحدة خلال المدة من 23 إلى 25 جمادى الثانية عام 1399ﻫ/ الموافق لـ من 20 إلى 22 مايو 1979م.قد تناول بالبحث والدراسة المواضيع الفقهية الشرعية والاقتصادية المتعلقة بأعمال المصارف الإسلامية وفحص هذه الأعمال وبحثها بحثا مستفيضا بما ارتاحت إليه قلوب المؤتمرين من فقهاء الشريعة الإسلامية ورجال الاقتصاد ورجال القانون من حيث سلامة تلك الأعمال والتحقق من نفعها الأكيد ومطابقتها لأحكام الشريعة الإسلامية...لذلك يناشد المؤتمر دول العالم الإسلامي أجمع أن تبادر إلى إقامة مصارفها على أسس وقواعد المصارف الإسلامية وأن تقدم لهذه المصارف كافة المساعدات التي تمكنها من تسيير أعمالها بيسر وأن تباشر نشاطها بما يدعم اقتصاديات العالم الإسلامي ويحقق تكاملها.
* المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي:المنعقد بين 6-8 جمادى الثانية 1403ﻫ الموافق لـ 21-23 مارس 1983م، جاء في توصياته:1. يؤكد المؤتمر أن ما يسمى بالفائدة في اصطلاح الاقتصاديين الغربيين ومن تبعهم هو من الربا المحرم شرعا.2. يوصي المؤتمر أصحاب الأموال من المسلمين بتوجيه أموالهم أولا إلى المصارف والمؤسسات والشركات الإسلامية داخل البلاد العربية والبلاد الإسلامية ثم إلى خارجها وإلى أن يتم ذلك تكون الفائدة التي يحصلون عليها كسبا خبيثا وعليهم استيفاؤها والتخلص منها بصرفها في مصالح المسلمين العامة ويعتبر الاستمرار في إيداع الأموال في البنوك والمؤسسات الربوية مع إمكان تفادي ذلك عملا محرما شرعا.3. يوصي المؤتمر بتشجيع المصارف الإسلامية القائمة ودعم إنشاء المزيد من هذه المصارف لتعم منافعها على جميع المستويات.
* المؤتمر الثالث للمصرف الإسلامي:المنعقد بين 9-11 صفر 1406ﻫ الموافق لـ 25-27 أكتوبر 1985مجاء في فتاوي لجنة العلماء بالمؤتمر في البندين (1-2) ما يلي:أولا: إقامة المصارف الإسلامية على أسس شرع الله ودينه من تحريم الربا والغرر والجهالة وغيرها ضرورة شرعية ومصلحة من مصالح الأمة الجوهرية.ثانيا: نظرا للخدمات التي تؤديها المصارف الإسلامية من تيسير التجارة الدولية والمحلية وتسهيل استبدال العملات وجمع فائض الأموال من المسلمين واستثمارها على الوجه المشروع، وتوجيهها إلى مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي لا غنى للمجتمع المسلم عنها تقرر أن:إقامة المصارف الإسلامية حيث يوجد للمسلمين فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين وإذا لم يقم به أحد فالكل آثمون.* مجمع الفقه الإسلامي بجدة:جاء في القرار الأول لهذا المجمع في دورته الثالثة المنعقدة بعمان بتاريخ: 8-13 صفر 1407ﻫ الموافق لـ: 11-16 أكتوبر 1986م، بشأن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية حول خدمات القروض: [كل زيادة عن الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعا].
تاسعا: الاجتهاد الجماعي
1. في عصر الصحابة: روى الدارمي والبيهقي عن ميمون بن مهران قال: [كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم، وإن لم يجد في كتاب الله نظر هل كانت من النبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة، فإن علمها قضى بها، فإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين فقال: أتاني كذا وكذا... فهل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما قام إليه الرهط فقالوا: نعم، قضى فيه بكذا وكذا، فيأخذ بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول عند ذلك: "الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا "، وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به].وكذلك كان يفعل عمر بن الخطاب "وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين – عمر بن الخطاب – ليس عنده فيها نص عن الله، ولا عن رسوله جمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعلها شورى بينهم".
* ومن أمثلة الاجتهاد ما يلي:أ- الاجتهاد في أمر الخلافة: وقع الخلاف بين الصحابة ثم اتفقوا على تولية أبي بكر الصديق قياسا على إمامته للصلاة، إذ قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس.ب- الاجتهاد في المسألة المشتركة: والرأي الذي يقضي بالاشتراك يضم: عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت وغيرهم...
ج- أمر الطاعون: لما خرج عمر بن الخطاب إلى الشام وهو في الطريق علم أن الطاعون قد اشتعل بها، فاستشار الصحابة في مواصلة السير إليها أو العودة فرارا من الطاعون، فاختلفوا في ذلك بين من يرى المواصلة أو العودة فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أتفر من قدر الله يا عمر؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله.وبعد مدة جاء عبد الرحمن بن عوف وكان متخلفا عن الركب، ولما علم بالأمر قال: عندي من هذا علم، فقال له عمر: أنت عندنا الأمين المصَدق فماذا عندك؟ قال سمعت رسول الله يقول (إذا سمعتم بهذا الوباء فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فرارا منه) [حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وأحمد من حديث عبد الرحمن بن عوف]، كما روي عن أسامة بن زيد مثله ولفظه (إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا فرارا منه).
2. في عصر التابعين: ظهرت عدة مدارس من أبرزها مدرستي أهل الحديث وأهل الرأي: أ- مدرسة أهل الحديث في الحجاز: مهبط الوحي ومهد السنة النبوية ومنبع الحديث، لها امتداد إلى الصحابة مثل عبد الله بن عمر بن الخطاب.من علماء هذه المدرسة سعيد بن المسيب، عروة بن الزبير.
* من مميزاتها:- الاعتناء بالحديث وتقديمه على الرأي.- كراهية السؤال عما لم يقع.
ب- مدرسة أهل الرأي في العراق: لها امتداد إلى الصحابة مثل: عمر بن الخطاب، عبد الله بن مسعود... من علمائها: إبراهيم النخعي، شريح بن الحارث القاضي...
* من مميزاتها:- التوسع في الأخذ بالرأي، وعدم التهيب من الفتوى.- افتراض مسائل لم تقع، ووضع حلول لها.
3. في عصر الأئمة المجتهدين: وهو العصر الذهبي للاجتهاد الفقهي، ونشأت فيه المذاهب الفقهية الكبرى: مذهب الإمام الأوزاعي بالشام، والليث بن سعد بمصر... وعرف هذا العصر كثرة الوقائع والمستجدات والمناقشات والمناظرات...و المذاهب الكبرى تنسب إلى فقهاء مثل: أحمد والشافعي وأبو حنيفة ومالك... وهي تمثل اتجاها جماعيا في الاجتهاد.
4. في الوقت المعاصر: لقد استجدت في دنيا الناس قضايا جديدة في مجالات عديدة بسبب الثورات التي يشهدها العالم المعاصر خاصة في المجال الطبي والاقتصادي منها: قضية الاستنساخ البشري والتبرع بالأعضاء الآدمية والمعاملات الاستثمارية والبنكية المختلفة، وهي قضايا تتطلب النظر من مجموع الفقهاء المؤهلين إضافة إلى اهل الخبرة في المجالات المختلفة ذلك ما ترجم عمليا من خلال المجامع الفقهية والمؤتمرات العالمية (راجع التفاصيل في النقطة السابقة).
عاشرا: ضوابط الاجتهاد السليم
1. التزام خط الاعتدال والتوازن: الجامع بين النصوص الشرعية ومقاصد الشريعة، وبين محكمات الشريعة ومقتضيات العصر، لقوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[سورة البقرة، الآية 143]، وهذا يقتضي كما قال الشيخ القرضاوي في كتابه "الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط" ص 91: [العلم العاصم من الحكم بالجهل، والورع العاصم من الحكم بالهوى، والاعتدال العاصم من الغلو والتفريط].
2. التقيد بدائرة الاجتهاد: وهي دائرة الظنيات، إذ لا اجتهاد في مورد النص أي النص القطعي، فالقطعيات المحكمات تحفظ أصول الدين، والظنيات تستجيب لمقتضيات العصر.
3. الجمع بين الفقه والحديث: طالب الفقه بغير علم بالحديث قد يستشهد بأحاديث ضعيفة أو لا أصل لها ويبني عليها أحكاما، وطالب الحديث بلا فقه معرض للضياع، قال الرسول : (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) [متفق عليه].قال سفيان الثوري وغيره: [لو كان أحدنا قاضيا لضربنا بالجريد فقيها لا يتعلم الحديث، ومحدثا لا يتعلم الفقه].
4. الاستعانة بأهل الخبرة: عند ممارسة الاجتهاد خاصة في هذا العصر الذي يقتضي مواجهة مستجداته الكثيرة والحساسة: الاستنساخ، زرع الأعضاء، التبرع بالأعضاء...، قال تعالى:﴿...فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [سورة الفرقان، الآية 59].﴿...وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [سورة فاطر، الآية 14].﴿...فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة النحل، الآية 43].
5. الجمع بين الاجتهاد الفردي والجماعي ولزومهما معا: لأننا لا يمكن الاستغناء عن الاجتهادات الفردية للعلماء وهي تمثل روافد قوية للاجتهاد الجماعي الممثل في المجامع الفقهية والندوات العالمية.
6. ضرورة بذل الجهد المتاح "الوسع": في استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية عملا بحديث معاذ بن جبل [أجتهد رأيي ولا آلو].
الفتوى
أولا: تعريفها
بيان الحكم الشرعي في المسألة المعروضة، ولها أربعة أركان هي:- السائل: "المستفتي" هو صاحب السؤال.- المسؤول: "المفتي" هو المجيب عن السؤال.- العملية: هي الإفتاء.- المضمون: الفتوى.
بيان الحكم الشرعي في المسألة المعروضة، ولها أربعة أركان هي:- السائل: "المستفتي" هو صاحب السؤال.- المسؤول: "المفتي" هو المجيب عن السؤال.- العملية: هي الإفتاء.- المضمون: الفتوى.
ثانيا: أهميتها
1. بيان حكم الشرع في مسألة ما ﴿...فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة النحل، الآية 43].2. إقامة الحجة على الناس بعد السؤال والاستفتاء.3. علاج قضايا العصر ورفع الحرج عن الناس، فالفتوى تستجيب لمستجدات الزمان ومستحدثات الإنسان، وهي بذلك تتغير كما يقول ابن قيم الجوزية في "إعلام الموقعين": فصل تغير الفتوى واختلافها حسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: [هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجد من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه...].
ثالثا: منزلتها
1. هي منزلة عظيمة وخطيرة فهو منصب تولاه الله بنفسه، فهو أول المفتين، قال تعالى:﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ...﴾ [سورة النساء، الآية 176].2. منصب تولاه الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضى الرسالة ﴿...وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...﴾ [سورة النحل، الآية 44].3. المفتي وارث للنبوة، قال الرسول : (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم) [رواه أبو داود].فتاوى العلماء توقيع عن رب العالمين، قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": [إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكر فضله... فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟]، فالمفتي هو المخبر عن الله.
رابعا: تعظيم السلف الصالح للفتوى
- قال عمر بن الخطاب: [أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار].- سئل الشعبي عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تستحي من قول لا أدري وأنت فقيه العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالوا: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [سورة البقرة، الآية 32].- قال ابن أبي ليلى: [أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يسأل عن شيء إلا ود أخاه كفاه].- سُئلت عائشة أم المؤمنين عن مسح الخفين فأجابت: [سل عليا فإنه أعلم مني، وهو كان يسافر معه].- قال الإمام مالك: [من سئل عن مسألة، فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها].- سئل أحد العلماء فقيل له: سؤال خفيف، فقال: أغفلت عن قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [سورة المزمل، الآية 5].
خامسا: المفتي (أحكامه)
أ- شروطه:1. أن يكون مسلما.2. أن يكون مكلفا بالغا عاقلا.3. أن يكون عالما، ومن أفتى بغير أهلية فهو آثم.4. أن يكون ورعا.5. أن يكون عادلا في أقواله وأفعاله.6. أن يكون حسن السيرة.7. أن يكون ملتزما بالشورى لآل الرأي والعلم ﴿...فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [سورة الفرقان، الآية 59]، فمن شاور الناس شاركها عقولها.8. أن يكون عارفا بأحوال الناس وبأعرافهم وعاداتهم التي استقرت عليها أمورهم.
ب- خصال المفتي (آدابه)1. أن يكون ملتزما للمظهر الحسن.2. أن يتسم بالحلم والوقار والسكينة.3. أن يكون متريثا في إصدار الفتوى إلى غاية فهم السؤال والوقوف على ملابساته.4. أن يطابق فعله قوله المفتى به.5. أن يفتي في حال اعتداله حرصا على سلامة التفكير واستقامة الحكم، وهذا قياسا على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) [رواه البخاري وأبو داود].6. البيان الزائد على السؤال لتحقيق فائدة أكبر.
ج- أقسام المفتي:1. المفتي المنتسب: المنتمي إلى مذهب أو مدرسة فقهية معينة.2. المفتي المستقل (المطلق): هو الذي يستقل بادراك الأحكام الشرعية من غير تقليد وتقيد بمذهب معين.
د- أحكامه:1. ضرورة بيان أدلة الفتوى وتعليل الأحكام.2. ضرورة تحري أرجح الأقوال.3. تجنب التشديد في أمر يسره الشرع: قال سفيان الثوري: [إنما العلم عندنا الرخصة عن ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد].قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ﴾ [سورة الحج، الآية 87].قال رسول الله : (يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا) [رواه مسلم].4. ضرورة تقيد المفتي بنص السؤال إلا في حالات منها:- أن يكون السائل متلبسا بمعصية ظاهرة أكبر من التي سأل عنها.- يمكن ترك محل السؤال إلى أمر آخر مرتبط به أنفع وأولى في مثل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 189]، حينما سألوا: [ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يتم ثم يعود كما بدأ]، فأجيبوا ببيان النفع الحاصل لذلك.5. ضرورة التزام الوضوح والدقة عند الإجابة، قال الإمام علي: [حدِّثوا الناس بما يعرفون (يفقهون) أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله؟].
سادسا: المستفتي
أ- أحكامه:1. يجب عليه أن يلجأ إلى من هو أهل للفتوى ممن عُرف بذلك عن طريق التواتر أو الاستفاضة، والاستيثاق من الأهلية، قال تعالى: ﴿...فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [سورة الفرقان، الآية 59].2. تقليد المفتي الميت: وله وجهان:الأول: لا يجوز زوال أهليته بالموت.الثاني: وهو الصحيح، يجوز ذلك لأن المذاهب والفتاوى لا تموت بموت أصحابها.3. مذهب العامي مذهب مفتيه لأنه لا مذهب له.4. عند اختلاف فتوى مفتيين نكون أمام خمسة أوجه (احتمالات):الأول: يأخذ بأغلظها أخذا بالعزائم، ولأنه الأحوط، فيأخذ بالمنع دون الإباحة.الثاني: يأخذ بأخفهما لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بالحنيفية السمحة.الثالث: يجتهد في الأوثق اجتهاد اختيار لا استنباط، فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع.الرابع: يسأل مفتيا آخر فيعمل بفتوى من يوافقه.الخامس: يتخير فيأخذ بفتوى أيهما يشاء.5. إذا استفتى فأفتي ثم حدثت له تلك الحادثة مرة أخرى فهل يلزمه تجديد السؤال؟ في الأمر وجهان:الأول: يلزمه لجواز تغير رأي المفتي.الثاني: لا يلزمه وهو الأصح لأنه عرف الحكم، والأصل استمرار المفتي به، فيستصحب بقاء الحكم كما كان.6. للمستفتي أن يستفتي لنفسه أو عن طريق غيره شرط أن يكون أمينا.7. تقديم المعطيات الصحيحة المتعلقة بالسؤال.8. عدم رفض الفتوى ديانة إذا تعلقت بحكم شرعي ثابت، إذا أفتي بما شاء فرح، وإذا أفتي بما لم يشأ قدح في عدل الشريعة، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [سورة النساء، الآية 65].9. عدم جواز تتبع الرخص، قال العلماء: [من تتبع الرخص فقد اجتمع فيه الشر كله].
ب- آدابه:1. السؤال عما ينبني عليه عمل، سئل النبي : (متى الساعة؟ أجابه: وماذا أعددت لها؟).2. التزام الأدب عند السؤال لفظا وسلوكا.3. التزام الوضوح عند السؤال مبنى ومعنى.4. توجيه السؤال للمفتي الأسن عند تعدّد المفتين.
سابعا: الفتوى
أ- آدابها وضوابطها:1. البيان وإزالة الإشكال.2. الرفق بالمستفتي والصبر على تفهيمه الفتوى.3. كتابة الفتوى بوضوح ودقة في المباني والمعاني.4. تجنب الاختصار المخل أو التفصيل الممل.ب- أحكامها:1. ذكر الحجة والدليل.2. ضرورة احترام قواعد الاستدلال:- احترام مبدأ الشرعية.- ضرورة تجميع النصوص الشرعية المتعلقة بموضوع الفتوى، مع مراعاة درجة الأدلة.- ضرورة المقارنة بين النصوص وإعمال قواعد الأصول.- مراعاة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال والعوائد والنيات.
1. بيان حكم الشرع في مسألة ما ﴿...فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة النحل، الآية 43].2. إقامة الحجة على الناس بعد السؤال والاستفتاء.3. علاج قضايا العصر ورفع الحرج عن الناس، فالفتوى تستجيب لمستجدات الزمان ومستحدثات الإنسان، وهي بذلك تتغير كما يقول ابن قيم الجوزية في "إعلام الموقعين": فصل تغير الفتوى واختلافها حسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: [هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجد من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه...].
ثالثا: منزلتها
1. هي منزلة عظيمة وخطيرة فهو منصب تولاه الله بنفسه، فهو أول المفتين، قال تعالى:﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ...﴾ [سورة النساء، الآية 176].2. منصب تولاه الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضى الرسالة ﴿...وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...﴾ [سورة النحل، الآية 44].3. المفتي وارث للنبوة، قال الرسول : (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم) [رواه أبو داود].فتاوى العلماء توقيع عن رب العالمين، قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": [إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكر فضله... فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟]، فالمفتي هو المخبر عن الله.
رابعا: تعظيم السلف الصالح للفتوى
- قال عمر بن الخطاب: [أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار].- سئل الشعبي عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تستحي من قول لا أدري وأنت فقيه العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالوا: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [سورة البقرة، الآية 32].- قال ابن أبي ليلى: [أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يسأل عن شيء إلا ود أخاه كفاه].- سُئلت عائشة أم المؤمنين عن مسح الخفين فأجابت: [سل عليا فإنه أعلم مني، وهو كان يسافر معه].- قال الإمام مالك: [من سئل عن مسألة، فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها].- سئل أحد العلماء فقيل له: سؤال خفيف، فقال: أغفلت عن قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [سورة المزمل، الآية 5].
خامسا: المفتي (أحكامه)
أ- شروطه:1. أن يكون مسلما.2. أن يكون مكلفا بالغا عاقلا.3. أن يكون عالما، ومن أفتى بغير أهلية فهو آثم.4. أن يكون ورعا.5. أن يكون عادلا في أقواله وأفعاله.6. أن يكون حسن السيرة.7. أن يكون ملتزما بالشورى لآل الرأي والعلم ﴿...فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [سورة الفرقان، الآية 59]، فمن شاور الناس شاركها عقولها.8. أن يكون عارفا بأحوال الناس وبأعرافهم وعاداتهم التي استقرت عليها أمورهم.
ب- خصال المفتي (آدابه)1. أن يكون ملتزما للمظهر الحسن.2. أن يتسم بالحلم والوقار والسكينة.3. أن يكون متريثا في إصدار الفتوى إلى غاية فهم السؤال والوقوف على ملابساته.4. أن يطابق فعله قوله المفتى به.5. أن يفتي في حال اعتداله حرصا على سلامة التفكير واستقامة الحكم، وهذا قياسا على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) [رواه البخاري وأبو داود].6. البيان الزائد على السؤال لتحقيق فائدة أكبر.
ج- أقسام المفتي:1. المفتي المنتسب: المنتمي إلى مذهب أو مدرسة فقهية معينة.2. المفتي المستقل (المطلق): هو الذي يستقل بادراك الأحكام الشرعية من غير تقليد وتقيد بمذهب معين.
د- أحكامه:1. ضرورة بيان أدلة الفتوى وتعليل الأحكام.2. ضرورة تحري أرجح الأقوال.3. تجنب التشديد في أمر يسره الشرع: قال سفيان الثوري: [إنما العلم عندنا الرخصة عن ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد].قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ﴾ [سورة الحج، الآية 87].قال رسول الله : (يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا) [رواه مسلم].4. ضرورة تقيد المفتي بنص السؤال إلا في حالات منها:- أن يكون السائل متلبسا بمعصية ظاهرة أكبر من التي سأل عنها.- يمكن ترك محل السؤال إلى أمر آخر مرتبط به أنفع وأولى في مثل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 189]، حينما سألوا: [ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يتم ثم يعود كما بدأ]، فأجيبوا ببيان النفع الحاصل لذلك.5. ضرورة التزام الوضوح والدقة عند الإجابة، قال الإمام علي: [حدِّثوا الناس بما يعرفون (يفقهون) أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله؟].
سادسا: المستفتي
أ- أحكامه:1. يجب عليه أن يلجأ إلى من هو أهل للفتوى ممن عُرف بذلك عن طريق التواتر أو الاستفاضة، والاستيثاق من الأهلية، قال تعالى: ﴿...فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [سورة الفرقان، الآية 59].2. تقليد المفتي الميت: وله وجهان:الأول: لا يجوز زوال أهليته بالموت.الثاني: وهو الصحيح، يجوز ذلك لأن المذاهب والفتاوى لا تموت بموت أصحابها.3. مذهب العامي مذهب مفتيه لأنه لا مذهب له.4. عند اختلاف فتوى مفتيين نكون أمام خمسة أوجه (احتمالات):الأول: يأخذ بأغلظها أخذا بالعزائم، ولأنه الأحوط، فيأخذ بالمنع دون الإباحة.الثاني: يأخذ بأخفهما لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بالحنيفية السمحة.الثالث: يجتهد في الأوثق اجتهاد اختيار لا استنباط، فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع.الرابع: يسأل مفتيا آخر فيعمل بفتوى من يوافقه.الخامس: يتخير فيأخذ بفتوى أيهما يشاء.5. إذا استفتى فأفتي ثم حدثت له تلك الحادثة مرة أخرى فهل يلزمه تجديد السؤال؟ في الأمر وجهان:الأول: يلزمه لجواز تغير رأي المفتي.الثاني: لا يلزمه وهو الأصح لأنه عرف الحكم، والأصل استمرار المفتي به، فيستصحب بقاء الحكم كما كان.6. للمستفتي أن يستفتي لنفسه أو عن طريق غيره شرط أن يكون أمينا.7. تقديم المعطيات الصحيحة المتعلقة بالسؤال.8. عدم رفض الفتوى ديانة إذا تعلقت بحكم شرعي ثابت، إذا أفتي بما شاء فرح، وإذا أفتي بما لم يشأ قدح في عدل الشريعة، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [سورة النساء، الآية 65].9. عدم جواز تتبع الرخص، قال العلماء: [من تتبع الرخص فقد اجتمع فيه الشر كله].
ب- آدابه:1. السؤال عما ينبني عليه عمل، سئل النبي : (متى الساعة؟ أجابه: وماذا أعددت لها؟).2. التزام الأدب عند السؤال لفظا وسلوكا.3. التزام الوضوح عند السؤال مبنى ومعنى.4. توجيه السؤال للمفتي الأسن عند تعدّد المفتين.
سابعا: الفتوى
أ- آدابها وضوابطها:1. البيان وإزالة الإشكال.2. الرفق بالمستفتي والصبر على تفهيمه الفتوى.3. كتابة الفتوى بوضوح ودقة في المباني والمعاني.4. تجنب الاختصار المخل أو التفصيل الممل.ب- أحكامها:1. ذكر الحجة والدليل.2. ضرورة احترام قواعد الاستدلال:- احترام مبدأ الشرعية.- ضرورة تجميع النصوص الشرعية المتعلقة بموضوع الفتوى، مع مراعاة درجة الأدلة.- ضرورة المقارنة بين النصوص وإعمال قواعد الأصول.- مراعاة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال والعوائد والنيات.
علم مقاصد الشريعة الإسلامية
تمهيد: بيان أهمية علم المقاصد
ازداد الاهتمام بهذا العلم تأليفا وتدريسا وتوعية.وهو علم ضروري لاستنباط الأحكام، والإفتاء والقضاء والتوجيه والإرشاد.
أولا: التعريف بهذا العلم
مركب إضافي "مقاصد الشريعة".أ- لغة:المقاصد:جمع مَقصَد، مصدر ميمي مأخوذ من الفعل قَصَدَ.قَصَدَ يقصدُ قَصْداً و مَقْصَداًقَصْدٌ أو مَقْصَدٌ معنى واحد.من معانيه:1- التوسط: عدم الإفراط والتفريط.- قال الله تعالى: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ...﴾ [سورة لقمان، الآية 19].- قال رسول الله : (القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغوا) [أخرجه البخاري].- قال جابر: [كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكانت صلاتُه قَصْداً وخطبتُه قَصْدًا] أي وسطاً بين الطويلة والقصيرة،[أخرجه مسلم].
2- استقامة الطريق: قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [سورة النحل، الآية 9].طريق قاصد: سَهْلٌ مستقيم.
الشريعة:* لغة: الشرع والشرعة معنى واحد تطلق على:- مورد الماء (مصدره، منبعه).- الطريقة المستقيمة.- المنهاج.الماء مصدر حياة الإنسان وسائر المخلوقات و الشرع مصدر حياة التقوى وصلاحها.* اصطلاحا: ما شرعه الله لعباده من الأحكام عن طريق أنبيائه.قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة الجاثية، الآية 18].
ب- اصطلاحا:نجد في كتب العلماء المتأخرين تعريفات منها:1- الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: [هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها...].2- الشيخ علال الفاسي: [المراد بمقاصد الشريعة الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها].يقوم النظر المقاصدي على الموازنة بين ظاهر النصوص ومقصودها (بين المباني والمعاني) وفقا لميزان الشرع.مثال: العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
ثانيا: أصل علم المقاصد
مَرَّ بعدة مراحل إلى أن وصل إلى مرحلة التدوين، والقواعد المقاصدية مقررة في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة.أ - في القرآن:قال الله تعالى:1- ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [سورة الذاريات، الآية 56].2- ﴿...يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ...﴾ [سورة البقرة، الآية 185].3- ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ...﴾ [سورة النساء، الآية 28].4- ﴿...وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج...﴾ [سورة الحج، الآية 78].5- ﴿...إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ…﴾ [سورة العنكبوت، الآية 45].6- ﴿...كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 183].7- ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا…﴾ [سورة التوبة، الآية 103].8- ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍمَّعْلُومَاتٍ...﴾ [سورة الحج، الآيتان27-28].
ب- في السنة:1- قال رسول الله : (فإنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) [أخرجه البخاري].2- (إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر) [أخرجه البخاري].3- (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرْج) [أخرجه البخاري].4- منع الجمع بين المرأة وأختها أو عمتها أو خالتها: (إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) [الطبراني].
ج- الإجماع:الاتفاق على أن علة الصغر موجبة للولاية على النفس والمال معاً.
ثالثاً: إثبات مقاصد الشريعة
أ- إثباتها بالأدلة النقلية:ثبت ذلك باستقراء نصوص الكتاب والسنة.معنى الاستقراء:لغة: التتبع.اصطلاحاً: "تصفح الجزئيات لإثبات حكم كلي"، وهو طريقة لمعرفة مقاصد الشريعة.- قال البيضاوي في كتابه "المنهاج" [إن الاستقراء دل على أن الله سبحانه وتعالى شرع أحكامه لمصالح العباد...]- قال العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام": [لو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسنة لَعَلمْنَا أن الله أمر بكل خير... وزجر عن كل شر... فإن لخير يُعبر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد، والشر يُعبر به عن جلب المفاسد ودرء المصالح].- ثبتت نقلا بطرق عديدة منها:الأولى: إخبار الله في القرآن الكريم بأنه "حكيم" في مواضع كثيرة مثل ﴿...إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [سورة الإنسان، الآية 30]، وهذا يقتضي أن تكون أحكامه محققة لمقاصد، فالحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها الحقيقية (المناسبة).- قال ابن القيم في "شفاء العليل": [لا يكون الكلام حكمةً حتى يكون موصلاً إلى الغايات المحمودة والمطالب النافعة، فيكون مرشداً إلى العلم النافع والعمل الصالح فتحصل الغايةُ المطلوبة...].الثانية: إخبار الله عن نفسه أنه أرحم الراحمين مثل: ﴿...رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ [سورة المؤمنون، الآية 109].﴿...وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء...﴾ [سورة الأعراف، الآية 156].ولا يتحقق ذلك إلا بأنه يقصد رحمة خلقه: أمراً ونهياً.الثالثة: إخباره عن أهمية القرآن وعظمته ومقصود إنزاله، ورعايته لمصالح المكلفين.قال الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة يونس، الآية 57].﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ...﴾ [سورة الإسراء، الآية 82].﴿إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ...﴾ [سورة الإسراء، الآية 9].الرابعة: إخباره عز وجل أنه أمر بأمر من أجل أمر معين:﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا…﴾ [سورة البقرة 143].الخامسة: جاءت في القرآن نصوص عامة تشمل تحقيق جميع المصالح مثل: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَىعَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [سورة النحل، الآية 90]، قال ابن مسعود: [هذه أَجْمَعُ آية في القرآن لخَيْر يُمْتَثَلُ وشَرّ يُجْتَنَبُ]
ب- إثباتها بالأدلة العقلية:الدليل الأول: لا يمكن تعطيل الحكمة والمقصد من الأحكام لأن ذلك دلالة على العجز والله صاحب القدرة المطلقة.الدليل الثاني: تكريم الإنسان، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...﴾ [سورة الإسراء، الآية 70]، ومن لوازم ذلك رعاية مصالحه.الدليل الثالث: تؤكد العقول السليمة أن كل شيء خُلق لحكمة.الدليل الرابع: لا يرضى إنسان يضع - نظاماً- أن يقال له أنك وضعت نظاماً بلا هدف أو غاية، فكيف نرضى ذلك لله في أحكامه ونظامه؟ فالإسلام منهاج حياة.
رابعا: أقسام مقاصد الشريعة
أ- أقسامها باعتبار المصالح التي جاءت بتقريرها وحفظها:1- الضروريات2- الحاجيات3- التحسينيات
-1- الضروريات (الكليات)أولاً: تعريفهاهي المصالح الأساسية (الجوهرية) التي تقوم عليها حياة الناس، ويؤدي تخلفها إلى اختلال نظام الحياة، وحصول الفوضى والفساد في دنيا الناس.- عرفها الإمام الشاطبي في الموافقات بأنها: [ما لا بدَّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فُقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين] (جزء2/ص7)، وتتمثل هذه المصالح في: الدين، النفس، النسل، العقل والمال.- قال الشاطبي في الموافقات ج1: [قد اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وُضعت للمحافظة على الضروريات الخمس وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال والعقل...]
ثانيا: أنواعها1- مقصد حفظ الدين: وهو أرقى كلية وأكبر مقصد، لأن التدين يستجيب لفطرة الإنسان.والدين الحق هو الإسلام لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ...﴾ [سورة آل عمران، الآية 19].﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [سورة آل عمران، الآية 85].لذلك يجب المحافظة عليه لأن ضياعه يؤدي إلى ضياع المقاصد الأخرى وخراب الدنيا، ويتحقق الحفظ مجملا عند الشاطبي: [بأمرين أحدهما: ما يقيم أركانها ويُثَبّتُ قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود، والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم] الموافقات (الجزء2/ص7).
أ- المحافظة على الدين وجوداً: ويتم ذلك عن طريق:1- العمل به: أداء واجباته العينية مثل: الصلاة، والصيام... وواجباته الكفائية مثل: تحصيل العلوم التي تحتاج إليها الأمة، صلاة الجنازة...2- الحكم به: وذلك بتحكيمه في جميع مناحي الحياة، فلا يُعزل عن قيادتها كما تدعو العلمانية.3- الدعوة إليه: بنشره وبيان أحكامه، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…﴾ [سورة النحل، الآية 125].﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [سورة يوسف، الآية 108].4- الدفاع عنه: ضد من ينتهك أحكامه ويضع الحواجز في طريقه، ويثير الشبهات حوله.
ب- المحافظة على الدين عَدَماً: وذلك برد ما يخالف الدين من: المعتقدات الباطلة، المذاهب الهدامة، الأفكار المنحرفة، ويقوم بذلك:1- العلماء: ببيان بطلانها، ودحضها…2- الحكام والقضاة: بتنفيذ أحكام الشريعة في المرتدين، وأهل الأهواء، وإقامة الحدود ورد المظالم.قال الإمام الماوردي: [والذي يلزمه- يعني الحاكم- من الأمور عشرة منها: حفظ الدين على أصوله المستقرة…] الأحكام السلطانية، ص15.3- عموم الأمة: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِوَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ...﴾ [سورة آل عمران، الآية 110].
2- مقصد حفظ النفس:
أ- المحافظة على النفس من جهة الوجود: 1- ضمان عناصر الحياة من ماء وغذاء وإيواء وكساء ودواء وأمن.2- إباحة المحظورات عند الضرورة، قال تعالى:﴿...فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [سورة المائدة، الآية3].﴿...فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ...﴾ [سورة البقرة، الآية 173].
ب- المحافظة على النفس من جانب العدم:1- تحريم العدوان عليها وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّلَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [سورة النساء، الآية 93].﴿...وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [سورة الأنعام، الآية 147].﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ [سورة الإسراء، الآية 33].﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْالْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [سورة الأنعام، الآية 151].﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُيَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾ [سورة الفرقان، الآيتان 68-69].﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [سورة البقرة، الآية 195].﴿...وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [سورة النساء، الآية 29].
قال رسول الله :(لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلاَّ باحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) [أخرجه البخاري].(أكبر الكبائر الإشراكُ بالله، وقتلُ النفس وعُقوُقُ الوالدين، وقولُ الزور، أو قال وشهادةُ الزُّور) [أخرجه البخاري].(إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستَلقون ربكم ويسألكم عن أعمالكم، فلا تَرجعنَّ بعدي كفاراً (أو ضُلاَّلاً) يضربَ بعضكم رقاب بعض ألا يبلّغ الشاهد الغائب...) [أخرجه البخاري].(لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق) [أخرجه الترمذي].(من حمل علينا السلاح فليس منَّا) [أخرجه البخاري].(سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) [أخرجه البخاري].2- إقامة الحدود والقصاص: إن إقامة الحدود وتنفيذ القصاص من الضمانات الكبرى الحافظة للنفس البشرية من كل عدوان لذلك أكد الله عليها في مثل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة، الآيتان 178-179].﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [سورة لمائدة، الآية 45].
3- مقصد حفظ العقل: العقل نعمة كبرى، وهبة جليلة، أمرنا الله بالمحافظة عليه.أ- المحافظة عليه وجودا:1- إعطاؤه قيمة كبيرة، فذكره الله كثيرا في القرآن الكريم، مثل:﴿...إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [سورة آل عمران، الآية 118].﴿...لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [سورة الأنعام، الآية 151].﴿...لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [سورة النحل، الآية 12].أو يذكر صفة من صفاته مثل: التفكر، الاعتبار، التذكر، العلم، اليقين...﴿...إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل، الآية 11].2- العقل مناط التكليف، قال رسول الله : (رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق) [أخرجه الإمام أحمد وأبوا داود وابن ماجه].3- الدعوة إلى التعليم والتثقيف والتكوين إنماءً للعقل وقدراته.
ب- المحافظة عليه عدماً:1. منع المفسدات:أولاً: الحسية: مثل الخمور والمخدرات وغيرها.
ازداد الاهتمام بهذا العلم تأليفا وتدريسا وتوعية.وهو علم ضروري لاستنباط الأحكام، والإفتاء والقضاء والتوجيه والإرشاد.
أولا: التعريف بهذا العلم
مركب إضافي "مقاصد الشريعة".أ- لغة:المقاصد:جمع مَقصَد، مصدر ميمي مأخوذ من الفعل قَصَدَ.قَصَدَ يقصدُ قَصْداً و مَقْصَداًقَصْدٌ أو مَقْصَدٌ معنى واحد.من معانيه:1- التوسط: عدم الإفراط والتفريط.- قال الله تعالى: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ...﴾ [سورة لقمان، الآية 19].- قال رسول الله : (القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغوا) [أخرجه البخاري].- قال جابر: [كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكانت صلاتُه قَصْداً وخطبتُه قَصْدًا] أي وسطاً بين الطويلة والقصيرة،[أخرجه مسلم].
2- استقامة الطريق: قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [سورة النحل، الآية 9].طريق قاصد: سَهْلٌ مستقيم.
الشريعة:* لغة: الشرع والشرعة معنى واحد تطلق على:- مورد الماء (مصدره، منبعه).- الطريقة المستقيمة.- المنهاج.الماء مصدر حياة الإنسان وسائر المخلوقات و الشرع مصدر حياة التقوى وصلاحها.* اصطلاحا: ما شرعه الله لعباده من الأحكام عن طريق أنبيائه.قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة الجاثية، الآية 18].
ب- اصطلاحا:نجد في كتب العلماء المتأخرين تعريفات منها:1- الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: [هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها...].2- الشيخ علال الفاسي: [المراد بمقاصد الشريعة الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها].يقوم النظر المقاصدي على الموازنة بين ظاهر النصوص ومقصودها (بين المباني والمعاني) وفقا لميزان الشرع.مثال: العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
ثانيا: أصل علم المقاصد
مَرَّ بعدة مراحل إلى أن وصل إلى مرحلة التدوين، والقواعد المقاصدية مقررة في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة.أ - في القرآن:قال الله تعالى:1- ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [سورة الذاريات، الآية 56].2- ﴿...يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ...﴾ [سورة البقرة، الآية 185].3- ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ...﴾ [سورة النساء، الآية 28].4- ﴿...وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج...﴾ [سورة الحج، الآية 78].5- ﴿...إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ…﴾ [سورة العنكبوت، الآية 45].6- ﴿...كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 183].7- ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا…﴾ [سورة التوبة، الآية 103].8- ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍمَّعْلُومَاتٍ...﴾ [سورة الحج، الآيتان27-28].
ب- في السنة:1- قال رسول الله : (فإنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) [أخرجه البخاري].2- (إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر) [أخرجه البخاري].3- (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرْج) [أخرجه البخاري].4- منع الجمع بين المرأة وأختها أو عمتها أو خالتها: (إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) [الطبراني].
ج- الإجماع:الاتفاق على أن علة الصغر موجبة للولاية على النفس والمال معاً.
ثالثاً: إثبات مقاصد الشريعة
أ- إثباتها بالأدلة النقلية:ثبت ذلك باستقراء نصوص الكتاب والسنة.معنى الاستقراء:لغة: التتبع.اصطلاحاً: "تصفح الجزئيات لإثبات حكم كلي"، وهو طريقة لمعرفة مقاصد الشريعة.- قال البيضاوي في كتابه "المنهاج" [إن الاستقراء دل على أن الله سبحانه وتعالى شرع أحكامه لمصالح العباد...]- قال العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام": [لو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسنة لَعَلمْنَا أن الله أمر بكل خير... وزجر عن كل شر... فإن لخير يُعبر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد، والشر يُعبر به عن جلب المفاسد ودرء المصالح].- ثبتت نقلا بطرق عديدة منها:الأولى: إخبار الله في القرآن الكريم بأنه "حكيم" في مواضع كثيرة مثل ﴿...إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [سورة الإنسان، الآية 30]، وهذا يقتضي أن تكون أحكامه محققة لمقاصد، فالحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها الحقيقية (المناسبة).- قال ابن القيم في "شفاء العليل": [لا يكون الكلام حكمةً حتى يكون موصلاً إلى الغايات المحمودة والمطالب النافعة، فيكون مرشداً إلى العلم النافع والعمل الصالح فتحصل الغايةُ المطلوبة...].الثانية: إخبار الله عن نفسه أنه أرحم الراحمين مثل: ﴿...رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ [سورة المؤمنون، الآية 109].﴿...وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء...﴾ [سورة الأعراف، الآية 156].ولا يتحقق ذلك إلا بأنه يقصد رحمة خلقه: أمراً ونهياً.الثالثة: إخباره عن أهمية القرآن وعظمته ومقصود إنزاله، ورعايته لمصالح المكلفين.قال الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة يونس، الآية 57].﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ...﴾ [سورة الإسراء، الآية 82].﴿إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ...﴾ [سورة الإسراء، الآية 9].الرابعة: إخباره عز وجل أنه أمر بأمر من أجل أمر معين:﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا…﴾ [سورة البقرة 143].الخامسة: جاءت في القرآن نصوص عامة تشمل تحقيق جميع المصالح مثل: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَىعَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [سورة النحل، الآية 90]، قال ابن مسعود: [هذه أَجْمَعُ آية في القرآن لخَيْر يُمْتَثَلُ وشَرّ يُجْتَنَبُ]
ب- إثباتها بالأدلة العقلية:الدليل الأول: لا يمكن تعطيل الحكمة والمقصد من الأحكام لأن ذلك دلالة على العجز والله صاحب القدرة المطلقة.الدليل الثاني: تكريم الإنسان، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...﴾ [سورة الإسراء، الآية 70]، ومن لوازم ذلك رعاية مصالحه.الدليل الثالث: تؤكد العقول السليمة أن كل شيء خُلق لحكمة.الدليل الرابع: لا يرضى إنسان يضع - نظاماً- أن يقال له أنك وضعت نظاماً بلا هدف أو غاية، فكيف نرضى ذلك لله في أحكامه ونظامه؟ فالإسلام منهاج حياة.
رابعا: أقسام مقاصد الشريعة
أ- أقسامها باعتبار المصالح التي جاءت بتقريرها وحفظها:1- الضروريات2- الحاجيات3- التحسينيات
-1- الضروريات (الكليات)أولاً: تعريفهاهي المصالح الأساسية (الجوهرية) التي تقوم عليها حياة الناس، ويؤدي تخلفها إلى اختلال نظام الحياة، وحصول الفوضى والفساد في دنيا الناس.- عرفها الإمام الشاطبي في الموافقات بأنها: [ما لا بدَّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فُقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين] (جزء2/ص7)، وتتمثل هذه المصالح في: الدين، النفس، النسل، العقل والمال.- قال الشاطبي في الموافقات ج1: [قد اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وُضعت للمحافظة على الضروريات الخمس وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال والعقل...]
ثانيا: أنواعها1- مقصد حفظ الدين: وهو أرقى كلية وأكبر مقصد، لأن التدين يستجيب لفطرة الإنسان.والدين الحق هو الإسلام لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ...﴾ [سورة آل عمران، الآية 19].﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [سورة آل عمران، الآية 85].لذلك يجب المحافظة عليه لأن ضياعه يؤدي إلى ضياع المقاصد الأخرى وخراب الدنيا، ويتحقق الحفظ مجملا عند الشاطبي: [بأمرين أحدهما: ما يقيم أركانها ويُثَبّتُ قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود، والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم] الموافقات (الجزء2/ص7).
أ- المحافظة على الدين وجوداً: ويتم ذلك عن طريق:1- العمل به: أداء واجباته العينية مثل: الصلاة، والصيام... وواجباته الكفائية مثل: تحصيل العلوم التي تحتاج إليها الأمة، صلاة الجنازة...2- الحكم به: وذلك بتحكيمه في جميع مناحي الحياة، فلا يُعزل عن قيادتها كما تدعو العلمانية.3- الدعوة إليه: بنشره وبيان أحكامه، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…﴾ [سورة النحل، الآية 125].﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [سورة يوسف، الآية 108].4- الدفاع عنه: ضد من ينتهك أحكامه ويضع الحواجز في طريقه، ويثير الشبهات حوله.
ب- المحافظة على الدين عَدَماً: وذلك برد ما يخالف الدين من: المعتقدات الباطلة، المذاهب الهدامة، الأفكار المنحرفة، ويقوم بذلك:1- العلماء: ببيان بطلانها، ودحضها…2- الحكام والقضاة: بتنفيذ أحكام الشريعة في المرتدين، وأهل الأهواء، وإقامة الحدود ورد المظالم.قال الإمام الماوردي: [والذي يلزمه- يعني الحاكم- من الأمور عشرة منها: حفظ الدين على أصوله المستقرة…] الأحكام السلطانية، ص15.3- عموم الأمة: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِوَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ...﴾ [سورة آل عمران، الآية 110].
2- مقصد حفظ النفس:
أ- المحافظة على النفس من جهة الوجود: 1- ضمان عناصر الحياة من ماء وغذاء وإيواء وكساء ودواء وأمن.2- إباحة المحظورات عند الضرورة، قال تعالى:﴿...فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [سورة المائدة، الآية3].﴿...فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ...﴾ [سورة البقرة، الآية 173].
ب- المحافظة على النفس من جانب العدم:1- تحريم العدوان عليها وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّلَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [سورة النساء، الآية 93].﴿...وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [سورة الأنعام، الآية 147].﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ [سورة الإسراء، الآية 33].﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْالْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [سورة الأنعام، الآية 151].﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُيَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾ [سورة الفرقان، الآيتان 68-69].﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [سورة البقرة، الآية 195].﴿...وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [سورة النساء، الآية 29].
قال رسول الله :(لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلاَّ باحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) [أخرجه البخاري].(أكبر الكبائر الإشراكُ بالله، وقتلُ النفس وعُقوُقُ الوالدين، وقولُ الزور، أو قال وشهادةُ الزُّور) [أخرجه البخاري].(إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستَلقون ربكم ويسألكم عن أعمالكم، فلا تَرجعنَّ بعدي كفاراً (أو ضُلاَّلاً) يضربَ بعضكم رقاب بعض ألا يبلّغ الشاهد الغائب...) [أخرجه البخاري].(لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق) [أخرجه الترمذي].(من حمل علينا السلاح فليس منَّا) [أخرجه البخاري].(سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) [أخرجه البخاري].2- إقامة الحدود والقصاص: إن إقامة الحدود وتنفيذ القصاص من الضمانات الكبرى الحافظة للنفس البشرية من كل عدوان لذلك أكد الله عليها في مثل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة، الآيتان 178-179].﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [سورة لمائدة، الآية 45].
3- مقصد حفظ العقل: العقل نعمة كبرى، وهبة جليلة، أمرنا الله بالمحافظة عليه.أ- المحافظة عليه وجودا:1- إعطاؤه قيمة كبيرة، فذكره الله كثيرا في القرآن الكريم، مثل:﴿...إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [سورة آل عمران، الآية 118].﴿...لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [سورة الأنعام، الآية 151].﴿...لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [سورة النحل، الآية 12].أو يذكر صفة من صفاته مثل: التفكر، الاعتبار، التذكر، العلم، اليقين...﴿...إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل، الآية 11].2- العقل مناط التكليف، قال رسول الله : (رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق) [أخرجه الإمام أحمد وأبوا داود وابن ماجه].3- الدعوة إلى التعليم والتثقيف والتكوين إنماءً للعقل وقدراته.
ب- المحافظة عليه عدماً:1. منع المفسدات:أولاً: الحسية: مثل الخمور والمخدرات وغيرها.
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُالشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ [سورة المائدة، الآيتان 90-91].قال رسول الله :(كل مُسْكر خمر، وكل مُسْكر حرام...) [أخرجه مسلم].(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) [أخرجه البخاري ومسلم].(ما أسكر كثيره فقليله حرام) [أخرجه أحمد].- الخمر مفسدة للعقل، ومعطلة لمقاصده..- قال رسول الله : (اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث...) [أخرجه النسائي عن عثمان بن عفان].
ثانياً: المعنوية- مثل التصورات الفاسدة في الدين، أو في الاجتماع أو في السياسة فهي تعطل العقل عن التفكير السليم.- العقائد الفاسدة.- المذاهب والأفكار المنحرفة.2. إقامة حد شرب الخمر والعقوبات المختلفة:80 جلدة: قول مالك والثوري وأبي حنيفة ورواية عن أحمد.40 جلدة: قول الشافعي ورواية عن أحمد.
ثانياً: المعنوية- مثل التصورات الفاسدة في الدين، أو في الاجتماع أو في السياسة فهي تعطل العقل عن التفكير السليم.- العقائد الفاسدة.- المذاهب والأفكار المنحرفة.2. إقامة حد شرب الخمر والعقوبات المختلفة:80 جلدة: قول مالك والثوري وأبي حنيفة ورواية عن أحمد.40 جلدة: قول الشافعي ورواية عن أحمد.
4- مقصد حفظ النسل (النسب، البضع):
إن إهمال هذا المقصد يؤدي إلى:
- اختلاط الأنساب.
- انتهاك الأعراض.
- انتشار الفساد الخلقي.
- حلول المصائب والكوارث والمحن.
أ- المحافظة عليه من جهة الوجود:
1- الحث على ما يؤدي إلى استمراره الزواج: قال الله تعالى:
﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً...﴾ [سورة النساء، الآية 3].
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة الروم، الآية 21].
﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُون﴾ [سورة يس، الآية 26].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء...﴾ [سورة النساء، الآية 1].
(تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) [أخرجه أحمد وأبو داود].
(يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له ِوجَاء) [البخاري ومسلم].
2- التزام الأخلاق مثل: الحياء والحجاب.
3- توفير العمل والسكن تيسيراً للزواج.
ب- المحافظة عليه من جهة العدم:
1- تحريم الزنى وتقرير الحد عليه: قال الله تعالى:
﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً﴾ [سورة الإسراء، الآية 32].
﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَاطَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة النور، الآية 2].
2- تحريم القذف وتقرير الحد عليه.
3- تحريم التبني: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [سورة الأحزاب، الآية 4].
4- منع الإجهاض.
5- منع الاختلاط والتبرج.
5- مقصد حفظ المال:
- لا تستقيم الدنيا إلا بالمال فهو عصب الحياة، وقد جبل الإنسان على حبه في قوله تعالى:
﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ [سورة الفجر، الآية 20].
﴿...وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ...﴾ [سورة البقرة، الآية 177].
لذلك استجاب الله لنداء الفطرة البشرية بإباحة التملك الفردي، قال الله تعالى:
﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 274].
﴿...وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ...﴾ [سورة البقرة، الآية 179].
﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾ [سورة الليل، الآية 18].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ…﴾ [سورة النساء، الآية 29].
﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا﴾ [سورة النساء، الآية 5].
أ- المحافظة عليه من جهة الوجود:
1- الحث على التملك المشروع: عن طريق:
- الجهد العضلي (البدني) والفكري، قال الله تعالى:
﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [سورة الجمعة، الآية 10].
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [سورة الملك، الآية 15].
﴿...وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...﴾ [سورة البقرة، الآية 275].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [سورة النساء، الآية 29].
(أطيب الكسب عمل الرجل بيده وكلُّ بيع مبرور) [أخرجه أحمد، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/160].
(مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا منْ أَنْ يَأْكُلَ من عَمَل يَده، وإنَّ نَبيَّ الله دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ منْ عَمَل يَده) [أخرجه البخاري].
- التملك بحكم الشرع من غير جهد: الهبة، الوصية، الميراث، استحقاق النفقة، المهر بالنسبة للمرأة واستحقاق الديات.
2- الترغيب في كسب المال من خلال المنافع الأخروية التي يمكن تحصيلها، قال الله تعالى:
﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾البقرة، الآية 261].
﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ البقرة، الآية 245].
(ما تصدق أحد بصدقة من طيّب، ولا يقبل الله إلا الطيبَ، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرةً فتربو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يُرْبى أحدكم فَلُوّّةً أو فصيلة) [مسلم].
(ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعًا فيأكل منه طيرٌ ولا إنسان إلاَّ كان له به صدقةٌ) [البخاري].
(نعْمَ المَال الصَّالح للرجل الصالح) [أحمد، وصححه الألباني في "غاية المرام" ص261].
ب- المحافظة عليه من جهة العدم:
1- تحريم بعض مصادر التملك: مثل:
1. السرقة: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [سورة المائدة، الآية 39].
2. الرشوة: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش) [رواه أحمد].
3. الربا: ﴿يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ [سورة البقرة، الآية 276].
4. الغرر: وصف لاحق للعقود التي تلابسها الجهالة أو الخديعة (سواء في تعيين العقد أو المحل أو القدرة على التسليم مثل: بيع المعدوم، المجهول، السمك في الماء، الطيور في الهواء...
5. الميسر (القمار): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[سورة المائدة، الآية 90].
6. الغش: إظهار محاسن السلع وإخفاء مساوئها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (...من غشنا فليس منا) رواه مسلم وغيره.
قال الله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ* وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِمُفْسِدِينَ﴾ [سورة الشعراء، الآيات 181-183].
﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [سورة المطففين، الآيات 1-3].
﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ [سورة الرحمن، الآية 9].
7. الغصب: الاستيلاء على مال الغير عن طريق القوة والإكراه.
9. التجارة في المواد المحرمة والضارة مثل: بيع الخمور، المخدرات...
2- تحريم العدوان على المال: قال الله تعالى:
﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 188].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [سورة النساء، الآية 29].
(كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) [مسلم].
(...لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه...) [أحمد].
3- تحريم التبذير:
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [سورة الإسراء، الآية 27].
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [سورة الفرقان، الآية 67].
4- المنع من تمكين السفهاء من المال وكذا الصغار إلى غاية رشدهم، وجواز الحجر على السفهاء، قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاءأَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا(5) وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُممِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَادَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا﴾ [سورة النساء، الآية 6].
5- تشريع حد السرقة: قال الله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [سورة المائدة، الآية 39].
6- تشريع حد الحرابة: قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة المائدة، الآية 33].
7- توثيق الديون والإشهاد عليها: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَيَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَمِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْأَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَاتَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سورة البقرة، الآية 282].
-2- الحاجيات:
أولاً: تعريفها
تقررت في شريعة الله رفعا للحرج، قال الشاطبي: [وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوات المطلوب، فإذا لم تراعَ دخل على الجملة الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفاسد العادي المتوقع في صالح العامة، وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات].
ثانيًا: الغاية من الحاجيات
- رفع الحرج عن المكلفين
- حماية الضروريات.
ثالثًا: أدلتها
1- من القرآن:
﴿...يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر...﴾ [سورة البقرة، الآية 185].
﴿...وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...﴾ [سورة الحج، الآية 78].
﴿...مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ...﴾ [سورة المائدة، الآية 6].
﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا…﴾ [سورة البقرة، الآية 286].
﴿يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [سورة النساء، الآية 28].
﴿...لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا...﴾ [سورة الطلاق، الآية 7].
2- من السنة النبوية:
قال رسول الله لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري عندما أرسلهما إلى اليمن: (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تُنفّرا).
(إن الله تجاوز لي عن أمتي: الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) [حديث حسن رواه ابن ماجه].
3- من الإجماع:
أجمع العلماء - سلفًا وخلفًا، قديمًا وحديثًا - على يسر الشريعة، وعلى نفي التكليف بما لا يُستطاع، وعلى أن الحرج مرفوع في شرع الله.
4- من أثار العلماء وأقوالهم:
- قال ابن القيم: [فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها وحكمةٌ كلها...] أعلام الموقعين 3/84.
- قال الشاطبي: [...فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليفُ به شرعًا] الموافقات 2/157.
5- من المعقول:
اقتضت العقول السليمة رفض التكليف بما ليس في مقدور الإنسان، وعلى ذلك كله قامت قاعدة فقهية كبيرة: "المشقة تجلب التيسير"، وقاعدة: "إذا ضاق الأمر اتسع".
رابعا: أمثلتها
1- في العبادات:
- تقرير رخصة قصر الصلاة للمسافر، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنيَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾ [سورة النساء، الآية 101].
- تقرير رخصة الفطر في نهار رمضان للمريض والمسافر، قال الله تعالى: ﴿...مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْأَيَّامٍ أُخَرَ...﴾ [سورة البقرة، الآية 184].
- عدم وجوب القضاء للصلاة على الحائض لتكررها بخلاف الصيام.
- التيمم بالصعيد الطيب عند تحقق موجباته، وهو تخفيف إبدال: إبدال الوضوء والغسل بالتيمم.
- الصلاة بالقعود والاضطجاع عند عدم القدرة على القيام.
- الفدية للصيام للمريض.
- تناول المحرم من المشروبات والمأكولات عند الضرورة.
2- في المعاملات مثل:
- جواز عقد الإجارة: وهو عقد على منفعة مباحة معلومة من عين معينة لمدة معلومة، فالذي لا يستطيع شراء منزل مثلا يستأجره للانتفاع به.
- جواز المساقاة: وهي معاملة على تعهد شجر بجزء من ثمرته.
- جواز المضاربة (القِراض): أن يدفع شخص لآخر مالاً ليتاجر فيه والربح مشترك بينهما.
- مشروعية الطلاق: إذا كانت الحياة الزوجية لا تطاق.
3- في الجنايات مثل:
- جعل دية القتل الخطأ على عاقلة القاتل لما يتحمله من ضيق لو تحملها بمفرده.
-3- التحسينيات:
أولاً: تعريفها
هي المقاصد التي تجمل وتحسن وتكمل أمور الحياة في ظل الأخلاق الكريمة والذوق السليم ومحاسن العادات وكمال المروءات، فواتها لا يخل بنظام الحياة ولا ينجر عن تخلفها ضيق أو حرج..
قال الشاطبي: [وأما التحسينيات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات].
ثانيًا: أمثلتها
1- العبادات: لتحسين العبادة بنوافل الطاعات والقربات.
2- العادات: مكارم الأخلاق في الأكل والشرب واللباس وإنكار الخبائث.
- التخلق بالأخلاق الفاضلة.
3- المعاملات: لتحسين الحياة اليومية للمجتمع، مثل: إنكار التعامل الضار، الغش، التدليس، الإسراف، التقتير...
-4- المكملات:
هي ما يتم به المقصود من الضروريات والحاجيات والتحسينيات على أكمل وجه وأحسن صورة.
أولاً: مكملات الضروريات
1- من مكملات حفظ الدين:
أ- تحريم البدع وعقوبة المبتدع وذلك بفعل المأمور وترك المحظور، لأن البدع يحصل بها تحريف الدين.
ب- إظهار شعائر الإسلام مثل صلاة الجماعة.
2- التماثل في القصاص: وهذا ضابط يحول دون حصول مفاسد إثارة الأحقاد والعداوات.
3- تحريم القليل من الخمر.
4- منع الخلوة بالمرأة الأجنبية فإن الشيطان ثالثهما.
5- الإشهاد في البيوع وغيرها: توثيقًا للشروط وحفظًا للحقوق ومنعًا للانكار.
ثانياً: مكملات الحاجيات
1- اعتبار الكفاءة في الزواج مثل الدين، الخلق، المركز الاجتماعي، المستوى العلمي... تحقيقا لمقاصده، منها السكن والمودة بين الزوجين.
2- خيارات الأعيان التي تساعد على نجاح عملية البيع مثل:
أ- خيار العيب.
ب- خيار التعيين.
ج- خيار الوصف المرغوب فيه.
3- مكملات التحسينيات:
مثل: مندوبات الطهارة البدء باليمين قبل الشمال، والغسل ثلاثًا، زيادة وتكميلا لأصل الطهارة.
- ب- أقسام المقاصد باعتبار مرتبتها في القصد:
أولاً: المقاصد الأصلية
هي مقاصد مطلوبة شرعًا على وجه الأصالة، فهي المقاصد الأولى والغايات العليا للأحكام، مثل:
1- الأمر بالصلاة: تحقيقا لمعنى الخضوع لله، والانقياد له، والانتهاء عن الفحشاء والمنكر، ﴿...وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَر...﴾ [سورة العنكبوت، الآية 45].
قال الشاطبي في الموافقات: [فأما المقاصد الأصلية فهي التي لا حظ فيها للمكلف، وهي الضروريات المعتبرة...].
أ- ضروريات عينية: هي الواجبة على كل مكلف، لحفظ دينه: اعتقادًا، تعبدًا.
ب- ضروريات كفائية: القيام بالمصالح العامة التي بها استقامة نظام المجتمع المسلم مثل الولايات العامة التي يحفظ بها الدين، وتحمى بها الحقوق فهي وسيلة لتحقيق المصالح العامة للأمة.
ثانيًا: المقاصد التابعة
لا تخلو المقاصد الأصلية من مقاصد أخرى باعثة على تحقيقها أو مقترنة بها أو لاحقة لها، مثل:
1- الصلاة: طلبها يقتضي طلب كل ركن من أركانها.
2- الحج: المقصد الأصلي: أداء الركن الخامس، المقصد التبعي: طلب التجارة، قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّنرَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ﴾ [سورة البقرة، الآية 198]، تفيد هذه الآية جواز التجارة في الحج بعد أداء العبادة، وقد نقل الإمام الغزالي الإجماع على صحة التجارة في الحج.
3- العبادات كلها: مقصدها الأصلي التعبد، أما مقصدها التبعي فهو نيل الدرجات العلا في الآخرة.
4- تحصيل العلم: مقصده الأصلي التقرب إلى الله بمعرفته وخشيته، ومقصده التبعي فوائده الدنيوية المختلفة.
القواعد الفقهية
أولا: تعريف القواعد الفقهية
1. القواعد:أ- لغة: مادة "قعد" تفيد معنى الاستقرار والثبات، ومن ذلك "ذو القعدة" الشهر الذي كانت تقعد العرب فيه عن الأسفار، وقواعد البيت يعني أساسه، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [سورة البقرة، الآية 127].
ب- اصطلاحاً:- قال "صدر الشريعة" (تـ747ﻫ) عبيد الله بن مسعود بن محمد البخاري المحبوبي الحنفي الملقب بصدر الشريعة الأصغر: [القواعد هي القضايا الكلية].- قال الفيومي (تـ 770ﻫ) - وهو أبو العباس أحمد بن محمد بن علي المُقرئ الفيومي – [والقاعدة في الاصطلاح بمعنى الضابط، وهي الأمر الكلي المنطبق على جميع جزئياته].- قال تاج الدين بن السبكي (تـ771 ﻫ) إنها: [الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة...].
2. الفقهية:هي قيد في القواعد لإخراج ما ليس فقهيًا منها، كقواعد الحساب، والهندسة والفلسفة واللغة وأصول الفقه...
3. تعريف القواعد الفقهية (مركباً):- قال أبو عبد الله المقري (تـ 758ﻫ) في كتابه القواعد: [كل كلي أخصّ من الأصول وسائر المعاني العقلية العامة، وأعم من العقود وجملة الضوابط الفقهية الخاصة].- قال شهاب الدين أحمد بن محمد مكي الحموي الحنفي (تـ 1098ﻫ) إنها: [حكم أكثري لا كلي، ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها منه].- قال مصطفى أحمد الزرقا: [القواعد أصول فقهية كلية في نصوص موجزة دستورية تتضمن أحكامًا تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها].
ثانيا: أهميتها
1. ضبط الأمور (المسائل) المنتشرة الكثيرة ونظمها في سلك واحد: وذلك بتنظيم المنثور وتقييد الشوارد، وتقريب المتباعد.2. تُغني عن حفظ أكثر الجزئيات، وتُسهل حفظ أحكام الفروع، لأن المسائل الفقهية تعد بمئات الآلاف، قال القرافي (تـ 684ﻫ) في كتابه الفروق: [ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات].3. فهم هذه القواعد يساعد الفقيه على فهم مناهج الفتوى، ويمكّنه من استنباط الحلول والأحكام للوقائع والقضايا المتجددة.4. تُساعد على إدراك مقاصد الشريعة.5. تمكن غير المختصين في علوم الشريعة، كرجال القانون والاقتصاد والطب... من الإطلاع على الفقه بروحه ومضمونه بأيسر طريق.
ثالثا: أركانها
الأول: الموضوع "المحكوم عليه"وهو الذي يُحمل عليه الحكم، مثل: المشقة في قاعدة "المشقة تجلب التيسير"، والضرر في قاعدة "الضرر يزال"، واليقين في قاعدة"اليقين لا يزول بالشك".الثاني: الحكم "المحمول" أو "المحكوم به"وهو ما حُمل على الموضوع، أو أخبر به عنه أو أُسْندَ إليه.وبواسطته نُثبت أو ننفي وصفًا أو صفات عن الموضوع، وهذا الوصف بيانٌ لحكم شرعي كإثبات التيسير للمشقة، والإزالة للضرر، ونفي إزالة الشك باليقين.
رابعا: مسارها التاريخي
كانت القواعد الفقهية في البداية عبارة عن مفاهيم ثم نسّقت ثم أُصِّلت ثم صيغت... وأول محاولة لتدوينها قام بها: أبو الطاهر الدباس من علماء الحنفية، عاش في القرنين الثالث والرابع الهجريين.ثم تلتها محاولات جادة، ومن الكتب المؤلفة في القواعد والضوابط ما يلي:
1. القواعد:أ- لغة: مادة "قعد" تفيد معنى الاستقرار والثبات، ومن ذلك "ذو القعدة" الشهر الذي كانت تقعد العرب فيه عن الأسفار، وقواعد البيت يعني أساسه، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [سورة البقرة، الآية 127].
ب- اصطلاحاً:- قال "صدر الشريعة" (تـ747ﻫ) عبيد الله بن مسعود بن محمد البخاري المحبوبي الحنفي الملقب بصدر الشريعة الأصغر: [القواعد هي القضايا الكلية].- قال الفيومي (تـ 770ﻫ) - وهو أبو العباس أحمد بن محمد بن علي المُقرئ الفيومي – [والقاعدة في الاصطلاح بمعنى الضابط، وهي الأمر الكلي المنطبق على جميع جزئياته].- قال تاج الدين بن السبكي (تـ771 ﻫ) إنها: [الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة...].
2. الفقهية:هي قيد في القواعد لإخراج ما ليس فقهيًا منها، كقواعد الحساب، والهندسة والفلسفة واللغة وأصول الفقه...
3. تعريف القواعد الفقهية (مركباً):- قال أبو عبد الله المقري (تـ 758ﻫ) في كتابه القواعد: [كل كلي أخصّ من الأصول وسائر المعاني العقلية العامة، وأعم من العقود وجملة الضوابط الفقهية الخاصة].- قال شهاب الدين أحمد بن محمد مكي الحموي الحنفي (تـ 1098ﻫ) إنها: [حكم أكثري لا كلي، ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها منه].- قال مصطفى أحمد الزرقا: [القواعد أصول فقهية كلية في نصوص موجزة دستورية تتضمن أحكامًا تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها].
ثانيا: أهميتها
1. ضبط الأمور (المسائل) المنتشرة الكثيرة ونظمها في سلك واحد: وذلك بتنظيم المنثور وتقييد الشوارد، وتقريب المتباعد.2. تُغني عن حفظ أكثر الجزئيات، وتُسهل حفظ أحكام الفروع، لأن المسائل الفقهية تعد بمئات الآلاف، قال القرافي (تـ 684ﻫ) في كتابه الفروق: [ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات].3. فهم هذه القواعد يساعد الفقيه على فهم مناهج الفتوى، ويمكّنه من استنباط الحلول والأحكام للوقائع والقضايا المتجددة.4. تُساعد على إدراك مقاصد الشريعة.5. تمكن غير المختصين في علوم الشريعة، كرجال القانون والاقتصاد والطب... من الإطلاع على الفقه بروحه ومضمونه بأيسر طريق.
ثالثا: أركانها
الأول: الموضوع "المحكوم عليه"وهو الذي يُحمل عليه الحكم، مثل: المشقة في قاعدة "المشقة تجلب التيسير"، والضرر في قاعدة "الضرر يزال"، واليقين في قاعدة"اليقين لا يزول بالشك".الثاني: الحكم "المحمول" أو "المحكوم به"وهو ما حُمل على الموضوع، أو أخبر به عنه أو أُسْندَ إليه.وبواسطته نُثبت أو ننفي وصفًا أو صفات عن الموضوع، وهذا الوصف بيانٌ لحكم شرعي كإثبات التيسير للمشقة، والإزالة للضرر، ونفي إزالة الشك باليقين.
رابعا: مسارها التاريخي
كانت القواعد الفقهية في البداية عبارة عن مفاهيم ثم نسّقت ثم أُصِّلت ثم صيغت... وأول محاولة لتدوينها قام بها: أبو الطاهر الدباس من علماء الحنفية، عاش في القرنين الثالث والرابع الهجريين.ثم تلتها محاولات جادة، ومن الكتب المؤلفة في القواعد والضوابط ما يلي:
"تأسيس النظائر" لأبي الليث السمرقندي (تـ 773ﻫ)."القواعد" للقاضي عياض المالكي (تـ 544ﻫ)."القواعد في فروع الشافعية" لأبي حامد الجَاجِرْمي (تـ 613ﻫ)."قواعد الأحكام في مصالح الأنام" للإمام العز بن عبد السلام "سلطان العلماء" (تـ 660ﻫ)."الأشباه والنظائر" لتاج الدين بن السبكي الشافعي (تـ 771ﻫ)."تقرير القواعد وتحرير الفوائد" لابن رجب الحنبلي(تـ 795ﻫ)."الأشباه والنظائر" لجلال الدين السيوطي الشافعي (تـ 911ﻫ)."الفروق" للإمام القرافي المالكي ( تـ 684ﻫ).
خامسا: الفرق بين القواعد الفقهية والأصولية
1. القواعد الأصولية ناشئة عن الألفاظ العربية (تستوعب بفهم اللغة) وما يُعرض لها من نسخ وترجيح وخصوص وأمر ونهي... أما الفقهية فليست كذلك.2. القواعد الأصولية لا يفهم منها أسرار الشرع ولا حكمته، بينما تُفهم من القواعد الفقهية.3. القواعد الأصولية يُستخرج منها حكم الجزئيات بالواسطة وليس مباشرة، بخلاف القواعد الفقهية التي يستخرج منها حكم الجزئيات مباشرة فالقاعدة الأصولية "الأمر للوجوب" تفيد وجوب الصلاة، ولكن بواسطة الدليل، في مثل قوله تعالى: ﴿...فَأَقِيمُوا الصَّلَاة...﴾[سورة الحج، الآية 78]، والقاعدة الفقهية "الأمور بمقاصدها" تفيد وجوب النية في الصلاة مباشرة من دون واسطة.4. القاعدة الأصولية يكون موضوعها الأدلة أو الأحكام، مثل: الأمر يفيد الوجوب، والنهي يفيد التحريم، والإجماع حجة قطعية.أما القاعدة الفقهية فموضوعها فعل المكلف مثل: "اليقين لا يزول بالشك" و "لا ينسب إلى ساكت قول".5. قواعد أصول الفقه هي الوسائل التي يتوصل بها المجتهد إلى التعرف على الأحكام الشرعية.أما قواعد الفقه فهي الضوابط الكلية للفقه الذي توصل إليه المجتهد باستعماله القواعد الأصولية.
سادسا: شرح القواعد الفقهية
1. الأمور بمقاصدها: أي أحكام الأمور (الأقوال والأفعال) متعلقة بالنية، وأصلها حديث الرسول : (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى...) [متفق عليه].2. المشقة تجلب التيسير: أصلها قوله تعالى:﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [سورة النساء، الآية 28].﴿...وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...﴾ [سورة الحج، الآية 78].﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ...﴾ [سورة البقرة، الآية 286].وحديث الرسول :(يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا) [رواه أنس].وثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرها ما لم يكن إثما.من تطبيقاتها:- التيمم للمريض.- إسقاط القبلة عن العاجز والمريض.- التقصير في الصلاة حال السفر.
3. اليقين لا يزول بالشك: اليقين معناه الجزم، وهو ضروري لأداء العبادات كالوضوء والصلاة والصيام والحج... وغيرها، واليقين لا يزول بالشك والظن إلا بيقين مثله.4. من استعجل الأمر قبل أوانه عوقب بحرمانه (من استعمل الأمر قبل أوانه عوقب بعكس مقصوده): ومثال ذلك ما قضى بع عثمان بن عفان في رجل طلق زوجته وهو في مرض الموت ثلاثا، فمنعت من الميراث على أساس أنها طلقت طلاقا بائنا بينونة كبرى، فحكم سيدنا عثمان بتوريثها بناء على قاعدة "من استعجل الأمر قبل أوانه عوقب بعكس مقصوده"، لأن الزوج طلقها ليمنعها من الميراث.
5. العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني:* من فروعها:- الهبة بشرط العوض بيع.- الإعارة بشرط العوض إجارة.6. ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب:- فالوضوء واجب لتعلقه بالصلاة الواجبة.- لو اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار، يغسل ويكفن الجميع ويصلى عليهم.7. الأصل براءة الذمة: الذمم خلقت بريئة غير مشغولة بحق من الحقوق: الديون، التهم... إلا أن يتحقق الدليل الذي يثبت العكس.
8. إذا ضاق الأمر اتسع: هي من جزئيات قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، أي يتسع الأمر إلى غاية زوال الضيق (لسبب الضرورة أو المشقة)، يقابلها قاعدة "إذا اتسع الأمر ضاق" أي عاد إلى أصله.من تطبيقاتها:- إنظار المعسر إلى المَيْسُرة.- تخفيفات:1/ تخفيف (رخصة) إسقاط: عن المكلف عند وجود عذر شرعي.- إسقاط الصلاة عن الحائض والنفساء.- سقوط الصوم والحج عن العاجز عنهما.2/ تخفيف نقصان:- قصر الصلاة للمسافر.- القعود والاضطجاع والإيماء في الصلاة للمريض.3/ تخفيف إبدال: إبدال عبادة بأخرى.- إبدال الوضوء والغسل بالتيمم عند وجود العذر الشرعي.- الانتقال من القيام إلى القعود في الصلاة.- إبدال الصيام بالإطعام.4/ تخفيف تقديم:- تقديم صلاة العصر إلى الظهر، والعشاء إلى المغرب مثل الجمع بعرفات بين الظهر والعصر.5/ تخفيف تأخير:- تأخير الظهر إلى العصر والمغرب إلى العشاء لوجود مسوغ شرعي.- تأخير قضاء رمضان إلى ما بعد وقته لصاحب العذر، كالحائض، النفساء، والمسافر.- الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة.6/ تخفيف اضطرار: كشرب الخمر وأكل الميتة لمن جاع جوعا شديدا وخاف التهلكة...
9. لا ضرر ولا ضرار: أصلها حديث حسن رواه ابن ماجه والدار قطني و غيرهما عن أبي سعيد الخدري وابن عباس.لا ضرر: منع إلحاق المفسدة بالغير مطلقًا.لا ضرار: منع إلحاق المفسدة بالغير على وجه المقابلة له، فلا يجوز الإضرار ابتداءً ولا مقابلة.من تطبيقاتها:1/ خيار الرؤية: لدفع الضرر عن المشتري.2/ خيار الشرط: لدفع ضرر الغبن عن المشتري.3/ جواز الحكم بالحجر: لدفع الضرر عن المحجور عليه (المجنون، السفيه...) وعن أولاده وعائلته والدائنين.4/ نظام الشفعة: شُرع توقيًا من ضرر جار السوء.5/ حبس الموسر: عند امتناعه عن الإنفاق على أسرته دفعًا للضرر الواقع عليها.6/ عدم قبول شهادة شاهد خصم لأحد المتنازعين (لدفع ضرر الشهادة).7/ عدم قبول حكم القاضي الخصم لأحد المتنازعين – لدفع ضرر حكمه.من القواعد المؤكدة لها: الضرر يُدفع بقدر الإمكان.
10. الضرر يزال لكن لا يزال بمثله: توجب إزالة الضرر إذا وقع، ومن باب أولى تمنع الضرر الذي يفوقه.من تطبيقاتها:1/ تشريع نظام الشفعة.2/ الحجر على المجنون والسفيه.3/ بيع مال المدين المماطل جبرًا عليه لإيفاء ديونه.11. الضرورات تبيح المحظورات:من أصولها:قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة البقرة، الآية 173].﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة المائدة، الآية 3].﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ [سورة الأنعام، الآية 119].﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة الأنعام، الآية 145]. والضرورة هي الحاجة الشديدة.من تطبيقاتها:1/ جواز أكل المحرمات للضرورة.2/ جواز كشف الطبيب عن عورات الرجال والنساء بغرض العلاج.3/ جواز معرفة المفتي أسرار المستفتي.4/ جواز إلقاء بعض الحمولة (البضائع) من السفينة المشرفة على الغرق إنقاذًا للنفوس.12. الضرورة تقدّر بقدرها: فهذه القاعدة تكبح القاعدة السابقة، فلا يجوز التوسع في المحظور، والترخص بقدر دفع الضرورة، ومثال ذلك: تناول أو شرب المحرم للضرورة بمقدار ما يدفع عن النفس خطر الهلاك.﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة النحل، الآية 115].﴿...فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة المائدة، الآية 3].من القواعد المؤكدة لها:أ - ما جاز لعذر بُطل بزواله (إذا حضر الماء بطل التيمم).ب- إذا زال المانع عاد الممنوع.ج- إذا تعذَّر الأصل يُصار إلى البدل.
13. درء المفاسد مقدم على جلب المنافع: الدرء معناه الدفع أو الرفع أو الإزالة، فعند تعارض المفاسد والمصالح، لابد من دفع المفاسد أولا.من أصولها: حديث الرسول : (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن أمر فاجتنبوه) [رواه مسلم].من تطبيقاتها:1/ منع التجارة في المحرمات (خمور، مخدرات) رغم أنها مربحة، قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُلِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا...﴾ [سورة البقرة، الآية 219].2/ بتر العضو المريض إنقاذا للنفس.14. يختار أهون الشرين أو (يختار أخف الضررين) أو (الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف)من تطبيقاتها:1/ تشريع الجهاد في سبيل الله: حماية للمقدسات والأعراض.2/ رمي البضائع من السفينة المعرضة للغرق للمحافظة على الأنفس.3/ التبرع بعضو لشخص مشرف على الهلاك، شرط أن يكون العضو المتبرع به لا يؤدي إلى هلاك المتبرع.4/ جواز حبس من وجبت عليه النفقة إذا امتنع عن أدائها.15. يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام (يُدفع الضرر الأعم بارتكاب الضرر الأخص):من تطبيقاتها:1/ شرع حد الزنا وحد القذف صيانة للأعراض.2/ شرع حد السرقة صيانة للأموال.3/ شرع حد شرب الخمر حفظًا للعقول.4/ جواز الحجر على المفتي الماجن حفظا للدين.5/ بيع بضائع المحتكر جبرًا عليه عند الحاجة... دفعًا للضرر العام.6/ جواز الحجر على الطبيب الجاهل.
16. إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمها ضررا بارتكاب أخفهما: مراعاة أعظمهما تكون بإزالتها، لأن المفاسد تُراعى نفيًا، كما أن المصالح تُراعَى إثباتًا.من تطبيقاتها:1/ جواز السكوت على المنكر إذا كان يترتب على إنكاره ضرر أعظم.2/ جواز طاعة ولي الأمر الجائر إذا كان يترتب على الخروج عليه شر أعظم.3/ جواز شق بطن الميتة لإخراج الولد إذا كان تُرجى حياته.17. المعروف عرفا كالمشروط شرطا: مراعاة الشروط الصريحة المتعارف عليها، إذا لم تكن مخالفة للشرع، مثل الأعراف التجارية التي تقضي بتسليم المبيع إلى موطن المشتري...18. العادة مُحكّمة: أصلها قول ابن مسعود: (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح)[حديث حسن وإن كان موقوفًا عليه فله حكم المرفوع].لتحكيم العادة شروط أهمها:- ألاَّ تكون مخالفة لنص شرعي (لأن النص أقوى من العرف) لذلك يبطل العرف الذي يقضي بحرمان النساء من الميراث لمخالفته لنصوص شرعية قاطعة.- أن تكون مُطرَدَة لا تتخلف.- أن تكون كلية لا خاصة.- أن تكون سابقة، فلا عبرة بالعرف الطارئ.من تطبيقاتها:1/ اعتبار الكيل والوزن فيما تعورف كيله أو وزنه.2/ تقديم الأجرة قبل استيفاء المنفعة في عقد الإيجار.19. لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان: المراد بذلك الأحكام المبنية على أعراف الناس وعاداتهم، ومثال ذلك: جواز اتخاذ السجون، جواز تدوين الدواوين.وقد عقد الإمام ابن القيم فصلا في كتابه " إعلام الموقعين/ الجزء3 – ص3 بعنوان: في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: [هذا فصل عظيم جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يُعلم وأن الشريعة الباهرة التي في أعلى رُتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد...].20. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر: أصلها حديث الرسول : (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر) [رواه البيهقي عن ابن عباس]، فمن ادعى شيئا خلاف الظاهر لابد له من دليل، وقد يكون الدليل: وثيقة أو شهادة الثقات.واليمين على من أنكر، فالمتهم بريء لأن الأصل براءة الذمة، فهو لا يملك أي دليل فيكفيه الحلف.21. البينة حجة متعدية والإقرار حجة قاصرة: فالبينة متعدية أي تتجاوز صاحبها، أما الإقرار (الاعتراف) حجة قاصرة، أي تقتصر على نفس المقر، لا تتجاوزه إلى غيره.
22. لا ينسب إلى ساكت قول، لكن السكوت في موضع البيان بيان:من تطبيقاتها:1/ سكوت البكر في أمر الزواج كصريح القول، لقول الرسول : (وإذنها صماتها) [رواه مسلم].2/ فتوى عالم بحضور علماء آخرين فسكوتهم دليل على موافقتهم، لأنهم ملزمون ببيان الحكم الشرعي في المسألة المعروضة.23. الجواز الشرعي ينافي الضمان: أي فعل أو ترك مباح يرفع التبعات، وينافي الضمان لما حصل بذلك الأمر الجائز من التلف.من تطبيقاتها:1/ لو حفر إنسان بئرًا في ملكه الخاص فوقع فيها حيوان أو إنسان فهلك فلا ضمان.2/ الطبيب الجراح لا يضمن هلاك المريض إذا استنفذ جهده في العلاج.24. لا عبرة بالدلالة في مقابلة التصريح: وهي أقسام منها:- لفظية وضعية: كدلالة اللفظ على ما وُضع له من معنى.- لفظية طبيعية: كدلالة (أح) على الوجع.- غير لفظية طبيعية: كدلالة الحمرة على الخجل، والصفرة على الوجل.لكن تزول الدلالة بوجود التصريح، ومثال ذلك: وضع سياج حول بستان دلالة على عدم السماح بالدخول، لكن إذا أذن صاحب البستان صراحة بالدخول تلغى الدلالة.
25. لا اجتهاد في مورد النص: لا يجوز الاجتهاد في النصوص القطعية اليقينية، لكن يجوز ذلك في النصوص الظنية، أصلها: حديث معاذ بن جبل لما بعثه النبي إلى اليمن قاضيا، قال له: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله تعالى، قال: فإن لم تجد ؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال معاذ: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدري وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) [أخرجه أحمد وأبو داوود والترمذي].26. الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة: فولاية الأب على أولاده أقوى من ولاية القاضي، فلا يستطيع القاضي أن ينوبه في تربيتهم أو تزويجهم، أو تسيير أموالهم، فهو ولي لمن لا ولي له.27. التصرف على الرعية منوط بالمصلحة الشرعية: مفادها مراعاة ولاة الأمور لمصالح العباد الشرعية في سياستهم وحكمهم وتصرفاتهم.28. إعمال الكلام أولى من إهماله: حمل ألفاظ الكلام على معانيها الحقيقية المحتملة لغة، والأصل في الكلام الحقيقة، ولا يلجأ إلى المجاز إلا بوجود قرينة.29. التصرف في مال الغير باطل: لا يحق لأحد أن يتصرف في ملك الآخرين إلا بمسوغ شرعي.30. الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يقوم الدليل على خلافه: مفاد هذه القاعدة التعامل مع الأوضاع القائمة واستصحابها إلى أن يثبت الدليل الذي يخالفها.
31. الحدود تسقط بالشبهات: قررت هذه القاعدة حماية للمشتبه فيهم، فالحدود عقوبات شديدة تسقط عنهم عند وجود شبهة.32. إذا بطل الأصل صار إلى البدل: يراد بها اللجوء إلى البدل الوارد شرعا عند عدم القدرة على العمل بالأصل، ومثال ذلك: جواز الصلاة قعودا للمريض العاجز عن القيام.33. الإكراه يبطل العقود: الأصل العمل بالالتزامات الصادرة عن الشخص باختياره، أما الإكراه يبطل تصرفاته وعقوده.34. الحكم يدور مع علته وجودا و عدما: المراد بها أن لكل حكم علة يقوم عليها فإذا تحققت العلة وجد الحكم وإذا تخلفت انعدم.
خامسا: الفرق بين القواعد الفقهية والأصولية
1. القواعد الأصولية ناشئة عن الألفاظ العربية (تستوعب بفهم اللغة) وما يُعرض لها من نسخ وترجيح وخصوص وأمر ونهي... أما الفقهية فليست كذلك.2. القواعد الأصولية لا يفهم منها أسرار الشرع ولا حكمته، بينما تُفهم من القواعد الفقهية.3. القواعد الأصولية يُستخرج منها حكم الجزئيات بالواسطة وليس مباشرة، بخلاف القواعد الفقهية التي يستخرج منها حكم الجزئيات مباشرة فالقاعدة الأصولية "الأمر للوجوب" تفيد وجوب الصلاة، ولكن بواسطة الدليل، في مثل قوله تعالى: ﴿...فَأَقِيمُوا الصَّلَاة...﴾[سورة الحج، الآية 78]، والقاعدة الفقهية "الأمور بمقاصدها" تفيد وجوب النية في الصلاة مباشرة من دون واسطة.4. القاعدة الأصولية يكون موضوعها الأدلة أو الأحكام، مثل: الأمر يفيد الوجوب، والنهي يفيد التحريم، والإجماع حجة قطعية.أما القاعدة الفقهية فموضوعها فعل المكلف مثل: "اليقين لا يزول بالشك" و "لا ينسب إلى ساكت قول".5. قواعد أصول الفقه هي الوسائل التي يتوصل بها المجتهد إلى التعرف على الأحكام الشرعية.أما قواعد الفقه فهي الضوابط الكلية للفقه الذي توصل إليه المجتهد باستعماله القواعد الأصولية.
سادسا: شرح القواعد الفقهية
1. الأمور بمقاصدها: أي أحكام الأمور (الأقوال والأفعال) متعلقة بالنية، وأصلها حديث الرسول : (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى...) [متفق عليه].2. المشقة تجلب التيسير: أصلها قوله تعالى:﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [سورة النساء، الآية 28].﴿...وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...﴾ [سورة الحج، الآية 78].﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ...﴾ [سورة البقرة، الآية 286].وحديث الرسول :(يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا) [رواه أنس].وثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرها ما لم يكن إثما.من تطبيقاتها:- التيمم للمريض.- إسقاط القبلة عن العاجز والمريض.- التقصير في الصلاة حال السفر.
3. اليقين لا يزول بالشك: اليقين معناه الجزم، وهو ضروري لأداء العبادات كالوضوء والصلاة والصيام والحج... وغيرها، واليقين لا يزول بالشك والظن إلا بيقين مثله.4. من استعجل الأمر قبل أوانه عوقب بحرمانه (من استعمل الأمر قبل أوانه عوقب بعكس مقصوده): ومثال ذلك ما قضى بع عثمان بن عفان في رجل طلق زوجته وهو في مرض الموت ثلاثا، فمنعت من الميراث على أساس أنها طلقت طلاقا بائنا بينونة كبرى، فحكم سيدنا عثمان بتوريثها بناء على قاعدة "من استعجل الأمر قبل أوانه عوقب بعكس مقصوده"، لأن الزوج طلقها ليمنعها من الميراث.
5. العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني:* من فروعها:- الهبة بشرط العوض بيع.- الإعارة بشرط العوض إجارة.6. ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب:- فالوضوء واجب لتعلقه بالصلاة الواجبة.- لو اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار، يغسل ويكفن الجميع ويصلى عليهم.7. الأصل براءة الذمة: الذمم خلقت بريئة غير مشغولة بحق من الحقوق: الديون، التهم... إلا أن يتحقق الدليل الذي يثبت العكس.
8. إذا ضاق الأمر اتسع: هي من جزئيات قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، أي يتسع الأمر إلى غاية زوال الضيق (لسبب الضرورة أو المشقة)، يقابلها قاعدة "إذا اتسع الأمر ضاق" أي عاد إلى أصله.من تطبيقاتها:- إنظار المعسر إلى المَيْسُرة.- تخفيفات:1/ تخفيف (رخصة) إسقاط: عن المكلف عند وجود عذر شرعي.- إسقاط الصلاة عن الحائض والنفساء.- سقوط الصوم والحج عن العاجز عنهما.2/ تخفيف نقصان:- قصر الصلاة للمسافر.- القعود والاضطجاع والإيماء في الصلاة للمريض.3/ تخفيف إبدال: إبدال عبادة بأخرى.- إبدال الوضوء والغسل بالتيمم عند وجود العذر الشرعي.- الانتقال من القيام إلى القعود في الصلاة.- إبدال الصيام بالإطعام.4/ تخفيف تقديم:- تقديم صلاة العصر إلى الظهر، والعشاء إلى المغرب مثل الجمع بعرفات بين الظهر والعصر.5/ تخفيف تأخير:- تأخير الظهر إلى العصر والمغرب إلى العشاء لوجود مسوغ شرعي.- تأخير قضاء رمضان إلى ما بعد وقته لصاحب العذر، كالحائض، النفساء، والمسافر.- الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة.6/ تخفيف اضطرار: كشرب الخمر وأكل الميتة لمن جاع جوعا شديدا وخاف التهلكة...
9. لا ضرر ولا ضرار: أصلها حديث حسن رواه ابن ماجه والدار قطني و غيرهما عن أبي سعيد الخدري وابن عباس.لا ضرر: منع إلحاق المفسدة بالغير مطلقًا.لا ضرار: منع إلحاق المفسدة بالغير على وجه المقابلة له، فلا يجوز الإضرار ابتداءً ولا مقابلة.من تطبيقاتها:1/ خيار الرؤية: لدفع الضرر عن المشتري.2/ خيار الشرط: لدفع ضرر الغبن عن المشتري.3/ جواز الحكم بالحجر: لدفع الضرر عن المحجور عليه (المجنون، السفيه...) وعن أولاده وعائلته والدائنين.4/ نظام الشفعة: شُرع توقيًا من ضرر جار السوء.5/ حبس الموسر: عند امتناعه عن الإنفاق على أسرته دفعًا للضرر الواقع عليها.6/ عدم قبول شهادة شاهد خصم لأحد المتنازعين (لدفع ضرر الشهادة).7/ عدم قبول حكم القاضي الخصم لأحد المتنازعين – لدفع ضرر حكمه.من القواعد المؤكدة لها: الضرر يُدفع بقدر الإمكان.
10. الضرر يزال لكن لا يزال بمثله: توجب إزالة الضرر إذا وقع، ومن باب أولى تمنع الضرر الذي يفوقه.من تطبيقاتها:1/ تشريع نظام الشفعة.2/ الحجر على المجنون والسفيه.3/ بيع مال المدين المماطل جبرًا عليه لإيفاء ديونه.11. الضرورات تبيح المحظورات:من أصولها:قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة البقرة، الآية 173].﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة المائدة، الآية 3].﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ [سورة الأنعام، الآية 119].﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة الأنعام، الآية 145]. والضرورة هي الحاجة الشديدة.من تطبيقاتها:1/ جواز أكل المحرمات للضرورة.2/ جواز كشف الطبيب عن عورات الرجال والنساء بغرض العلاج.3/ جواز معرفة المفتي أسرار المستفتي.4/ جواز إلقاء بعض الحمولة (البضائع) من السفينة المشرفة على الغرق إنقاذًا للنفوس.12. الضرورة تقدّر بقدرها: فهذه القاعدة تكبح القاعدة السابقة، فلا يجوز التوسع في المحظور، والترخص بقدر دفع الضرورة، ومثال ذلك: تناول أو شرب المحرم للضرورة بمقدار ما يدفع عن النفس خطر الهلاك.﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة النحل، الآية 115].﴿...فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة المائدة، الآية 3].من القواعد المؤكدة لها:أ - ما جاز لعذر بُطل بزواله (إذا حضر الماء بطل التيمم).ب- إذا زال المانع عاد الممنوع.ج- إذا تعذَّر الأصل يُصار إلى البدل.
13. درء المفاسد مقدم على جلب المنافع: الدرء معناه الدفع أو الرفع أو الإزالة، فعند تعارض المفاسد والمصالح، لابد من دفع المفاسد أولا.من أصولها: حديث الرسول : (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن أمر فاجتنبوه) [رواه مسلم].من تطبيقاتها:1/ منع التجارة في المحرمات (خمور، مخدرات) رغم أنها مربحة، قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُلِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا...﴾ [سورة البقرة، الآية 219].2/ بتر العضو المريض إنقاذا للنفس.14. يختار أهون الشرين أو (يختار أخف الضررين) أو (الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف)من تطبيقاتها:1/ تشريع الجهاد في سبيل الله: حماية للمقدسات والأعراض.2/ رمي البضائع من السفينة المعرضة للغرق للمحافظة على الأنفس.3/ التبرع بعضو لشخص مشرف على الهلاك، شرط أن يكون العضو المتبرع به لا يؤدي إلى هلاك المتبرع.4/ جواز حبس من وجبت عليه النفقة إذا امتنع عن أدائها.15. يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام (يُدفع الضرر الأعم بارتكاب الضرر الأخص):من تطبيقاتها:1/ شرع حد الزنا وحد القذف صيانة للأعراض.2/ شرع حد السرقة صيانة للأموال.3/ شرع حد شرب الخمر حفظًا للعقول.4/ جواز الحجر على المفتي الماجن حفظا للدين.5/ بيع بضائع المحتكر جبرًا عليه عند الحاجة... دفعًا للضرر العام.6/ جواز الحجر على الطبيب الجاهل.
16. إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمها ضررا بارتكاب أخفهما: مراعاة أعظمهما تكون بإزالتها، لأن المفاسد تُراعى نفيًا، كما أن المصالح تُراعَى إثباتًا.من تطبيقاتها:1/ جواز السكوت على المنكر إذا كان يترتب على إنكاره ضرر أعظم.2/ جواز طاعة ولي الأمر الجائر إذا كان يترتب على الخروج عليه شر أعظم.3/ جواز شق بطن الميتة لإخراج الولد إذا كان تُرجى حياته.17. المعروف عرفا كالمشروط شرطا: مراعاة الشروط الصريحة المتعارف عليها، إذا لم تكن مخالفة للشرع، مثل الأعراف التجارية التي تقضي بتسليم المبيع إلى موطن المشتري...18. العادة مُحكّمة: أصلها قول ابن مسعود: (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح)[حديث حسن وإن كان موقوفًا عليه فله حكم المرفوع].لتحكيم العادة شروط أهمها:- ألاَّ تكون مخالفة لنص شرعي (لأن النص أقوى من العرف) لذلك يبطل العرف الذي يقضي بحرمان النساء من الميراث لمخالفته لنصوص شرعية قاطعة.- أن تكون مُطرَدَة لا تتخلف.- أن تكون كلية لا خاصة.- أن تكون سابقة، فلا عبرة بالعرف الطارئ.من تطبيقاتها:1/ اعتبار الكيل والوزن فيما تعورف كيله أو وزنه.2/ تقديم الأجرة قبل استيفاء المنفعة في عقد الإيجار.19. لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان: المراد بذلك الأحكام المبنية على أعراف الناس وعاداتهم، ومثال ذلك: جواز اتخاذ السجون، جواز تدوين الدواوين.وقد عقد الإمام ابن القيم فصلا في كتابه " إعلام الموقعين/ الجزء3 – ص3 بعنوان: في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: [هذا فصل عظيم جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يُعلم وأن الشريعة الباهرة التي في أعلى رُتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد...].20. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر: أصلها حديث الرسول : (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر) [رواه البيهقي عن ابن عباس]، فمن ادعى شيئا خلاف الظاهر لابد له من دليل، وقد يكون الدليل: وثيقة أو شهادة الثقات.واليمين على من أنكر، فالمتهم بريء لأن الأصل براءة الذمة، فهو لا يملك أي دليل فيكفيه الحلف.21. البينة حجة متعدية والإقرار حجة قاصرة: فالبينة متعدية أي تتجاوز صاحبها، أما الإقرار (الاعتراف) حجة قاصرة، أي تقتصر على نفس المقر، لا تتجاوزه إلى غيره.
22. لا ينسب إلى ساكت قول، لكن السكوت في موضع البيان بيان:من تطبيقاتها:1/ سكوت البكر في أمر الزواج كصريح القول، لقول الرسول : (وإذنها صماتها) [رواه مسلم].2/ فتوى عالم بحضور علماء آخرين فسكوتهم دليل على موافقتهم، لأنهم ملزمون ببيان الحكم الشرعي في المسألة المعروضة.23. الجواز الشرعي ينافي الضمان: أي فعل أو ترك مباح يرفع التبعات، وينافي الضمان لما حصل بذلك الأمر الجائز من التلف.من تطبيقاتها:1/ لو حفر إنسان بئرًا في ملكه الخاص فوقع فيها حيوان أو إنسان فهلك فلا ضمان.2/ الطبيب الجراح لا يضمن هلاك المريض إذا استنفذ جهده في العلاج.24. لا عبرة بالدلالة في مقابلة التصريح: وهي أقسام منها:- لفظية وضعية: كدلالة اللفظ على ما وُضع له من معنى.- لفظية طبيعية: كدلالة (أح) على الوجع.- غير لفظية طبيعية: كدلالة الحمرة على الخجل، والصفرة على الوجل.لكن تزول الدلالة بوجود التصريح، ومثال ذلك: وضع سياج حول بستان دلالة على عدم السماح بالدخول، لكن إذا أذن صاحب البستان صراحة بالدخول تلغى الدلالة.
25. لا اجتهاد في مورد النص: لا يجوز الاجتهاد في النصوص القطعية اليقينية، لكن يجوز ذلك في النصوص الظنية، أصلها: حديث معاذ بن جبل لما بعثه النبي إلى اليمن قاضيا، قال له: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله تعالى، قال: فإن لم تجد ؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال معاذ: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدري وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) [أخرجه أحمد وأبو داوود والترمذي].26. الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة: فولاية الأب على أولاده أقوى من ولاية القاضي، فلا يستطيع القاضي أن ينوبه في تربيتهم أو تزويجهم، أو تسيير أموالهم، فهو ولي لمن لا ولي له.27. التصرف على الرعية منوط بالمصلحة الشرعية: مفادها مراعاة ولاة الأمور لمصالح العباد الشرعية في سياستهم وحكمهم وتصرفاتهم.28. إعمال الكلام أولى من إهماله: حمل ألفاظ الكلام على معانيها الحقيقية المحتملة لغة، والأصل في الكلام الحقيقة، ولا يلجأ إلى المجاز إلا بوجود قرينة.29. التصرف في مال الغير باطل: لا يحق لأحد أن يتصرف في ملك الآخرين إلا بمسوغ شرعي.30. الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يقوم الدليل على خلافه: مفاد هذه القاعدة التعامل مع الأوضاع القائمة واستصحابها إلى أن يثبت الدليل الذي يخالفها.
31. الحدود تسقط بالشبهات: قررت هذه القاعدة حماية للمشتبه فيهم، فالحدود عقوبات شديدة تسقط عنهم عند وجود شبهة.32. إذا بطل الأصل صار إلى البدل: يراد بها اللجوء إلى البدل الوارد شرعا عند عدم القدرة على العمل بالأصل، ومثال ذلك: جواز الصلاة قعودا للمريض العاجز عن القيام.33. الإكراه يبطل العقود: الأصل العمل بالالتزامات الصادرة عن الشخص باختياره، أما الإكراه يبطل تصرفاته وعقوده.34. الحكم يدور مع علته وجودا و عدما: المراد بها أن لكل حكم علة يقوم عليها فإذا تحققت العلة وجد الحكم وإذا تخلفت انعدم.
ليست هناك تعليقات: